كنت أرقبه كثيراً، أتابع حركاته وسكناته، مبهورة بشخصه؛ فجمال هيئته وجلال هيبته، وأناقة ثيابه، ورائحة المسك التي تفوح من لحيته، كانت تجبرك على الانجذاب له.
كان واعظاً بليغاً، وأديباً ضليعاً، وفيلسوفاً مفكراً، شُغِلَ بكتبه ومحاضراته، فكان يعطيها من وقته كل يوم جزءاً، يسبح في بحورها من بعد صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء لا يخرجه من غرفة الصالون إلا الصلاة.
هكذا كان أبي رحمه الله (الشيخ ماهر عقل) أستاذي ودليل طريقي الأول، كنت إن ذهبت معه لإحدى محاضراته يأسرني حديثه، وسرعة بديهته وحلاوة نكتته فيجتمع الناس لمحضره من كل حدب وصوب، يشرح الإسلام ببساطة ووضوح، دين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، دين شامل وتشريع كامل، كان يصف كيف جمع الإسلام بين الرحمة والقوة والعدل والفضل، مصلحة الفرد والخير للجماعة، فحبَّبني في الدعوة إلى الله وجعلني أعشق حمل الفكرة والعيش لها، وأن تكون لي غاية أمنحها حياتي ووقتي وعمري طائعة راضية.
أتذكر وأنا ذات التسعة أعوام كيف كنت أضيق ذرعاً بالحوارات النسائية فأسرع الخطى لأجلس على أعتاب غرفة الصالون أتسمع أحاديث الرجال واختلافاتهم الفقهية ومناقشاتهم العلمية الثرية، ورغم أني كنت صغيرة السن فإنني كلما سألني سائل كما جرت العادة: ماذا تحبين أن تكوني عندما تكبرين؟ كانت إجابتي بكل ثقة ويقين: أريد أن أكون داعية إسلامية.
كنت أرى في عينيه السرور وأنا أردد هذه الكلمات، فكنت أحفظ خطبه بالنص وأكررها عليه، فكان يسعد بذلك سعادة غامرة، وما إن يزورنا زائر حتى يناديني: تعالي يا جيهان وأسْمِعي عمّك ما حفظت، وتدور الأيام وتعدو وأخوض ميدان الدعوة في مسجدنا مسجد الأنصار بكفر صقر، فكان يشجعني لإلقاء الدروس على النساء، وكان إذا تأخر في حاجة له يطلب مني إلقاء الدرس يومها فكنت أقول له كثيراً: يا أبتِ لا بد أن تعلمني قبلها بوقت كافٍ لأستطيع التحضير بشكل جيد، فلا يكون رده إلا ابتسامة يخفي بها تشبّهي به ويقول: بضع رقائق وإيمانيات تؤدي الغرض وأنت أهل لذلك..
فقد كان من عادات أبي -رحمه الله- التحضير العميق جداً لمواضيعه وندواته قبل إلقائها، ثم كان يلخص موضوعاته في بعض قصاصات من الورق يكتب فيها الأفكار الرئيسية وأول الآيات وبعض أبيات الشعر لتكون دليلاً له، وتعلمت منه أن أفهم الفكرة وأعِيها جيداً وأعبر عنها بأسلوبي وكلماتي، وأتحرى أن تصل إلى قلب السامع وعقله.. وأن هناك رزقاً للسامع يسخرك الله ليصله، ورزقاً للمتكلم فيسوقه الله لك ليطْلِق به لسانك..
ثم تمضي الأقدار فيجيء اليوم الذي قبض فيها أبي -رحمة الله عليه- ويومها فقدت مرجعاً وسنداً وعوناً كبيراً في حياتي وإن كان من لطف الله بي أن أحاطني بزوج يشابه أبي علماً وخلقاً، وكأن الله أراد لي دوام المعونة في الطريق الذي اخترت، فإن غابت شمسُ نهاري، أضاء ليْلِي القمرُ. وعندما كنت أدخل غرفة المكتبة الخاصة به كانت تنتابني مهابة المكان وحنين الذكريات، كان أبي -رحمه الله- يتراءى لي جالساً بين كتبه؛ إذ يفوح عبيرها بين يديه وتنساب الألفاظ الراقية والتعبيرات البليغة من بين ثناياه فتتساقط دموعي على هذه التركة الكبيرة التي خلفها، ففي كل كتاب له ملحوظة بخط يده، أو خاطرة أو دعاء.
كيف قرأ كل هذا الكم، وفهمه عقله وحواه قلبه! ومن بين الكتب والأوراق جمعت صندوقاً كبيراً، قد امتلأ بالقصاصات بخط يده حوت من الأفكار والموضوعات الكثير.. كنت ولا أزال أستشعر المسؤولية تجاه هذا العلم وهذه الأفكار الثمينة الغالية، ولكني وجدت نفسي أفكر: أهذا هو الميراث الحقيقي الذي تركه لي أبي؟ ما كان أبي جامعاً للمال ولا مقتنياً للعقار ولا كانزاً لثروة، بل اكتفى من الدنيا بمسكن كريم يؤوينا وأنفق ماله في سبيل الدعوة وإن كان قد تركنا في ستر من الله جميل.
إنّ تَرِكتهُ هي أفكار تجول في عقلي، وخبرات طبعت في نفسي، وتجارب أنضجني بها في دنيا مليئة بالأحداث والأسفار.. ولولا ما حلّ بنا في مصر من أحداث وأصابنا من ملمَّات حالت بيني وبين الخلوة بقصاصاته وتقييد أفكاره وكلماته، لكان في الأمر شأن آخر، ولكني تعلمت الدرس ووعيته، فخصصت لأفكاري دفتراً لتقييد ما عسى أن يطرأ على بالي من فِكَر وخبرات وقناعات وكتابة ما أعدّ من دروس ومحاضرات.
العلم صيد والكتابة قيدُه ** قَيّدْ صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ** ثم تتركها بين الخلائق طالقة
لعلي استثمر عملاً لآخرتي، أو أجِد وارثاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.