اعتدت أن أمر على عجوز يسكن بجواري أطمئن عليه، وأشرب معه كوباً من القهوة، ونخوض في الحديث عن بعض الذكريات والابتسامة على وجهه لما كان يفعله في، شبابه وفي منتصف حديثه أجد نبرة صوته تتلون بشيء من الحزن ويقول لي: "أتعرف ذلك البائع الذي يجلس في آخر الشارع؟" أنظر إليه وأهز رأسي وأنا أرتشف قليلاً من القهوة، يكمل كلامه ويقول: ليتني أمتلك ما يمتلكه.. ولم ينتظر أن أسأله ماذا تريد أن تمتلك؟ أكمل حديثه قائلاً: "كل يوم اعتدت أن أمر عليه أجد نظرات السعادة في عينيه والرضا في قلبه يجلس وأمامه خرطة من الجبن الحادق وبعض أعواد الجرجير ورغيفان من العيش الفلاحي المخبوز في فرن من الأفران القديمة المصنوعة من الطين، أتمنى لو أستطيع أن أجلس بجواره وآكل معه، ولكن تباً للمرض اللعين الذي منعني من أن أتذوق السعادة".
نظرت إلى عينيه فوجدت لمعة لم أعتَد أن أراها، وتساءلت: لماذا تذكر هذا الآن؟ كانت عينه تلمع بالسعادة ووجهه مبتسماً، لماذا أفسد على نفسه تلك اللحظة بما ليس لديه.. ابتسمت في وجهه واستأذنت منه للرحيل.
تمر الأيام وأمر على ذلك البائع لأشتري منه بعض الخضراوات، وكعادته بدأ يخوض معي في الحديث عن الشارع والسكان وأحوالهم، ووجدته في منتصف كلامه يقول بشغف: "عارف يا باشا نفسي في شوية فلوس زي اللي عند عم أحمد العجوز اللي في آخر الشارع"!
تعجبت مما سمعت، وبقيت صامتاً عدة ثوانٍ، وسألته ماذا كنت ستفعل لو تمتلك ما يمتلكه؟
قال: سأفعل الكثير، سأعيش سعيداً.
قلت له بتعجب: ولماذا لا تكون سعيداً أنت بالفعل تمتلك ما لا يمتلكه هو؟
ضحك كثيراً وقال: "فعلاً يا باشا أنا أمتلك كل شيء بائس".
سألته: ألا تجد ما يكفي يومك ويزيد لليوم الآخر؟
قال وهو يجمع بعض الخضراوات: "مرضيَّة يا باشا".
ابتسمت إليه وأنا آخذ منه ما جمع، وقلت له: "إذاً لمَ لا ترضى أنت؟"، وأخذت ما أريد ورحلت.
جلست أتأمل الموقفين؛ ماذا لو بدلنا التفاصيل؟ هل سيشعر كل منهما بالسعادة كما يقول؟ أعتقد أنه لا هناك شيء ناقص دائماً، جميعنا نمتلك السعادة، ولكن ليس جميعنا يمتلك الرضا والأمان، ولا نمتلك فلسفة الاستمتاع بما نملك.
هناك مواقف سعيدة تمر علينا، ولكن دائماً ما نفسدها، سواء بقلة رضا أننا نريد سعادة شخص آخر، أو بقلة أمان دائماً في تقاليدنا المصرية حينما نضحك كثيراً ونسعد بلحظاتنا، يأتي مَن يفسد علينا اللحظة، ويقول: "خير اللهم اجعله خير يا ترى إيه اللي هيحصل بعد كده.. الضحك الكتير لازم يحصل وراه حاجة"، وكأنه يستكثر على نفسه الفرحة.
لا نعرف دائماً ماذا سيحدث بعد ذلك.. فلمَ لا نستثمر ما نمتلكه الآن؟
تساءلت كثيراً: لماذا ننظر إلى حال الآخرين ونسخط على ما وصلنا اليه؟ كل منا له طريق، كل منا له تفاصيل لا يحملها الآخر، الاختلاف بيننا هو سيد الموقف دائماً يجب أن ندرك ذلك، وأن السعادة التي تنظر إليها في طريق الآخرين لا تتناسب مع تفاصيل طريقك، وإن كنت أنت ترى ذلك، ولم تكتب لك في فصل من روايتك لا نعلم ماذا فقد الآخرون ليصلوا إلى السعادة، وهل يشعرون بها حقاً أم يصطنعونها وعلى الرغم من ذلك يفسدونها على أنفسهم وتحسدهم أنت عليها، وهم قد يفعلون أيضاً ذلك؟!
استوقفني قول الله سبحانه وتعالى: "نحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا".
ماذا تريد بعد ذلك؟ فما تمتلكه هو ما كُتب لك ولسعيك، فاستمتع وارضَ بما تملك، وابحث في تفاصيل روحك البسيطة عن السعادة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.