كان التنظير، ولاحقاً الإثبات العلمي، لوجود اللاوعي الجمعي واختلافه عن اللاوعي الفردي سبباً في كسر الروابط العلمية والاجتماعية بين اثنين من أساتذة ومؤسسي علم التحليل النفسي.
فبعد توصل سيغموند فرويد وصديقه كارل يونغ إلى كشوفات علمية رائدة فيما يخص اللاوعي الفردي، تخاصم العالمين في عام 1912 ليبتكر بعدها بأربع سنوات عالم النفس السويسري الجنسية، كارل يونغ، مصطلح "اللاوعي الجمعي".
أراد يونغ بهذا المصطلح أن يصف تلك المعتقدات والنماذج التي تعد مكوناً رئيسياً لشخصية كل منا، دون أن يكون لنا دور في تشكيلها أو اكتسابها، فهي نماذج موروثة تفسر تلك الصلة التي نشعر بها مع أناس أو أماكن أو أشياء نراهم للمرة الأولى، أو طقوس وممارسات نتشاركها مع مجتمعاتنا حتى إذا لم نعِش داخلها، فهي جزء من الهوية البشرية شئنا أم أبينا، هي سجن العمر كما أشار لها توفيق الحكيم في سيرته الذاتية عندما تحدث عن الصفات التي توارثها ولا يقدر على تغييرها.
قبل 5000 عام من الآن، في نفس هذه البقعة من الأرض، عاش المصريون القدماء على ضفتَي نهر النيل العظيم، أطول نهر في العالم، إذا ما تغاضينا عن بعض الادعاءات الحديثة التي تزعم اكتشاف بداية جديدة لنهر الأمازون تجعل طوله يفوق النيل بما يقارب الـ100 كيلومتر، وارتبط نهر النيل بالحياة في مصر القديمة كونه مصدر مياه الشرب والزراعة الوحيد آنذاك. فلولاه لما كانت الحضارة المصرية، إحدى أقدم الحضارات البشرية، ولما كانت منتجات هذه الحضارة من اختراع ورق البردي، والإسهامات الطبية، والإنجازات المعمارية مثل الهرم الأكبر، الأثر الوحيد الباقي من عجائب الدنيا السبع القديمة، هذا ما جعل هيرودوت، المؤرخ اليوناني المعروف بـ"أبو التاريخ"- يصف مصر بأنها هبة النيل.
وقد كان لنهر النيل في مصر القديمة من الأهمية ما جعل المصريين يلقبون "حابي"، إله النيل، وفي روايات أخرى إله الفيضان، بلقب أبو الآلهة، وارتبط حابي بجلب الخير والسعادة لعموم المصريين آنذاك، فعندما يأتي الفيضان في موسمه السنوي، يقول المصريون: أتى حابي ويقيمون الاحتفالات سعداءً بهذا الإله الذي يأتيهم بما يرسب الطمي لتخصيب أرضهم الصحراوية لزراعة ما يحتاجون من مأكل، ومع ذلك، فلم يكن مجيء حابي مرحباً به دائماً، فقد يأتي في بعض السنوات بفيضان ضخم مدمر للزراعة وقنوات الري، تاركاً وراءه أرضاً جافة وشعباً جائعاً نادماً على أفعاله التي حتماً أغضبت الرب.
وتختلف التفاسير والآراء العلمية فيما إذا كان قدماء المصريين قد كانوا يلقون بفتاة حية في نهر النيل احتفالاً بوفاء النيل وقرباناً للآلهة، فقال البعض تغيرت المراسم بعد عدة أعوام من هذه المراسم فتم استبدال الفتاة بعروس خشبية. بينما زعم البعض الآخر أن إلقاء فتاة لم يحدث مطلقاً بل كانت عروساً (أو سمكة) منذ البداية. موضوع يصعب الدخول فيه بعمق لغير متخصص، ولكنه دال في النهاية على أهمية هذا الاحتفال السنوي الذي شارك فيه المصريون من كل الطبقات على مدار القرون الماضية حتى عهد قريب، أما الآن فعلى الرغم من استمرارية احتفال المصريين بعيد وفاء النيل، ولكن مع فقدان الزخم الشعبي، أصبح الاحتفال أشبه ما يكون بفعالية خاصة بالنخبة السياسية والثقافية فقط بعيداً عن المشاركة الشعبية كما كان في السابق.
على الرغم من ابتعاد عموم الشعب المصري عن الاحتفال والاهتمام بالنيل بشكل منظم، فنجد للنيل مكانة عظمى في وجداننا إذا ما بحثنا في اللاوعي الجمعي المصري.
فعلى مستوى اللغة، نجد كلمة نهر بعيدة عن المفردات الحاضرة للمصريين، فَيُشار للنيل باسمه بدلاً من صفته، وهو أمر عادي إذا توقف عند هذه النقطة، ولكنه يمتد بالمصريين الذين خرجوا عن حدود الوطن فنجدهم يشيرون في حديث عن أي نهر آخر في بلدان أخرى بالنيل وليس النهر.
لا أتحدث بالطبع عن الطبقة المثقفة التي تسعفها حصيلتها اللغوية الثرية.
وعلى صعيد آخر، نجد الكثير من المصريين مرتبطاً دون شعور أو إرادة بأرض مصر ونيلها، فنجد تأثير ذلك على الثقافة المصرية؛ حيث يعود معظم المصريين المغتربين إلى الوطن مرة أخرى، فيما تم وصفه بالأمثال الشعبية بأن مَن يشرب من مياه النيل سيعود حتماً لأرض مصر، "اللي يشرب من النيل لازم يرجع له تاني"، عبارة عرفها حتى غير المصريين فرددوها في زيارتهم الثانية لمصر، كما فعل الرئيس الصيني شي جين بينغ، والممثل الهندي أميتاب باتشان.
يعلم المصريون جمال وعظمة نهر النيل جيداً، فلا يكاد يخلو أي إعلان ترويجي للسياحة المصرية من صورة فنية رائعة للمراكب الشراعية العائمة على سطح النيل وقت الغروب، فهي نزهة يُوصى بها للسائحين في بلادنا، لا سيما الرحلة الأكثر شيوعاً التي يمضي فيها السائح بضعة أيام على مركب نيلي من الأقصر لأسوان، وقد علم الفرنسيون جيداً هذه المكانة للنهر الخالد، فبعد سنتين فقط من تصويرهم أول فيلم سينمائي في التاريخ، ذهب الإخوة لوميير لمصر في عام 1897 لتصوير الأهرام، ولم ينسوا بالطبع أن يصوروا فيلماً قصيراً بعنوان "بانوراما النيل".
ونجد هذا التأثير على وجدان المصريين في اختياراتهم الرسمية والشعبية، ففي عام 1915 بدأت الحكومة المصرية في منح "قلادة النيل العظمى" لشخصيات قدموا إسهامات أثرت في حياة المصريين، فلم يجد المبادرين في ذلك الوقت أعظم من نهر النيل لربط اسمه بهذا الشرف الذي كرم الكثير من الشخصيات المصرية والعالمية على مدار السنوات السابقة، وفي النشيد الوطني المصري، نهر النيل هو "المكان" الوحيد المذكور بالاسم في نشيد "بلادي بلادي"، وبالمثل عندما قررت مصر إطلاق القمر الصناعي الأول، تمت تسميته "نايل سات"، وسميت أول شبكة قنوات متخصصة بقنوات النيل.
وعلى مستوى الثقافة الشعبية نجد النيل وقد صُور في الكثير من المنتجات الثقافية المصرية، من مقطوعة النهر الخالد لمحمد عبد الوهاب، لتسمية حافظ إبراهيم بشاعر النيل، للتغني بشرب مياه النيل في أغنية شيرين عبد الوهاب "ما شربتش من نيلها"، نجد نهر النيل يرمز للشعب المصري أكثر من أي شيء آخر، فلم نجد مثل هذا التأثير للأهرامات أو القطن على سبيل المثال، وهذا كله إن دل على شيء فإنه يدل على أهمية نهر النيل في العقل الواعي وغير الواعي للمصريين الذين ما إن ذكروا النيل وصفوه بشريان الحياة.
في النهاية، لا يسعني الحديث عن نهر النيل، وعن ارتباط المصريين بأرضهم بشكل عام وبالنيل بصفة خاصة، إلا أن أذكر التطورات التي شهدتها السنوات الأخيرة فيما يتعلق ببناء إثيوبيا لسد النهضة الذي من شأنه، حسب بعض الدراسات، أن يخفض الطاقة المتولدة عن سد أسوان، بالإضافة لقدرته (في حال إساءة استخدامه) على التسبب في زيادة احتمالية قائمة بالفعل، وهي تعرض مصر لموجة جفاف حادة. هو أمر مصيري إذاً؛ حيث يتعلق ليس فقط برمز وطني حُفر في الذاكرة الجمعية للشعب المصري على مدار آلاف السنين، بل أيضاً بشريان الحياة الذي يعود إليه كل من شرب منه، سواء من أبناء الوطن أو من خارجه.
أخيراً يتوجب لهذا اللاوعي الجمعي أن يتحول لوعي جمعي يتحرك في شكل علمي منظم لإدارة هذه الأزمة التي تواجه مصير شعب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.