جرت العادة في أميركا قبل دخول كل سنة جديدة أن يقوم الفرد الأميركي بعملية تقويم أو جرد شخصي لما حققه من إنجازات في السنة الفارطة، وما يهفو إلى تحقيقه في السنة المقبلة (resolution) كنوع من المحاسبة والتحفيز الشخصي، وأظن أن هذه العادة لا تقتصر على الأميركيين فقط، بل يقوم بها غالبية الناس بطريقة شعورية أو لا شعورية، إننا كعرب نتجاوز الأميركيين في هذه العادة، فبعد الانتهاء من عملية تقويم الإنجازات الشخصية والأهداف المستقبلية، يأتي بعده جرد الإنجازات الجماعية لما حققه العرب كأمة تجمعها أمور يعرفها الجميع، لا بأس بأن لا نُـذكّـِر بها في هذا المقام.
إنني متأكد أنه بعد انتهاء الفرد العربي من عملية تقويم الإنجازات العربية لن تزيده النتيجة إلا حسرة على حسرة، بل يأسف لقيامه بكذا عملية، ويتأكد في كيّانه أننا قد تفنّنا كأمة وجاوزنا الغرب بآلاف السنوات الضوئية في عملية التخلف ورفض بعضنا بعضاً، ولا يقتصر الأمر على هذا فقط، بل تجاوزه لأمر أكثر خطورة، فالرافض والمرفوض منكران لحق بعضهما بالعيش وكل واحد منهما يسعى وراء هلاك الآخر، وما يحزّ في النفوس أن هذا العمل لم يعد يقتصر على فئة واحدة فقط، بل تجاوز الأمر إلى النخبة والمثقفين العرب، ففي حقيقة الأمر لم نعد نلمس اعتدالاً في الواقع العربي اليوم على جميع الأصعدة.
لقد تفنّن المثقف العربي وغيره في خلق تيارات متطرفة جديدة لم نكن نسمع بها من قبل، بل منافية للمبادئ التي بني عليها التيّار أصلاً، والأمثلة على ذلك كثيرة تتراوح ما بين كُتاب متحاقدين، وشعراء كلاسيكيين ضد شعراء حداثيين، سياسيين لائكيين ضد إسلاميين وهلمّ جرّا.. كنا بالأمس نلوم تيارات معيّنة بالتطرف وعدم احترامها للآخر ورأيه، أما اليوم فالواضح أنّ العدوى انتقلت إلى جميع الأطراف العربية، فالنفي وعدم الاعتراف بحق الآخر في الوجود وممارسة نشاطه السيّاسي، أو الديني، أو الكتابي أو الإبداعي أصبح موضة عربية جديدة، على الرغم من أن معظم هذه التيّارات التي يتبناها أصحابها مبنية على احترام وقبول الآخر في العالم الغربي.
إن الدوغمائية والأصولية العربية الجديدتين تعكسان واقعاً مراً وعَقبةً لم يتجاوزهما العقل العربي بعد، بل تُعدّان من الأمور التي تهدد الهوية والوجود والمجتمع. ففكرة قبول الآخر بقلب رحب مفتوح على الحوار، ما زلت حلماً يراود الواقع العربي على جميع الأصعدة. الكل يؤمن بهذه الفكرة، بل يتغنى بها ويجعل منها شعاراً له غير أن تطبيقها في أرض الواقع ليس له أثر، ولعّل هذا من أسباب التخلف الذي نعيشه اليوم.
إن الإيمان بالأحقية والشرعية في الرؤية الصحيحة ينتج عنه نتائج وخيمة، فأولى ضحاياه التنوع على جميع الأصعدة وقد ورد في الموسوعة العربية العالمية أن التعصب يقضي على روح التنافس والإبداع وإقصاء مجموعة لمجموعة أخرى، وحرمانهم من الهيبة والمزايا والقوة والسياسة، أو الفرص الاقتصادية.
ويمكن أن نلمس هذا في حياتنا اليومية، فنحن نعيش في روتين سياسي، واجتماعي، واقتصادي وثقافي خانق، فلم نتذوق بعد طعم الاختلاف، ولم نرَ بعد الزاوية الأخرى ولم نعلم كيف تكون الحياة باللون الآخر.. وهل هناك حقاً لون آخر؟ هل هناك حقاً نظام حياة آخر مخالف لما نعيشه؟ يبدو أنّه تمّت برمجتنا على الإصابة بعمى الألوان وأن نخاف تحدي الروتين والقضاء عليه والولوج إلى شيء جديد قد يمكن أن يكون في صالحنا، بل يجب أن نعترف بأننا فاشلون في سياسة النقل والتخلي عن الأشياء؛ لأننا نؤمن بأحقيتها لنا، بل إننا سنبيد كل من يريد غير ذلك.
إن التغيير المفاجئ في العالم العربي قد ينتج عنه نتائج متطرفة؛ لذا لا بد له من مقدمات وخطوات أولية تسمح بحدوثه ولعل أولى هذه الخطوات هو تغيير العقلية العربية وجعلها رخوة قابلة للانفتاح على الآخر، فكثيراً ما نطرح فكرة الانفتاح على العالم لأبنائنا، ولكن نجهل بأنّ ما ينقصنا حقاً هو الانفتاح على بعضنا البعض، وخلق قنوات حوار مع أنفسنا كي نقبل ونتقبل بعضنا، يقول علاء حسون: "إنّ الحوار يعدّ أفضل وسيلة للتلاقح الفكري وتوسيع آفاق الرؤية وتنمية الوعي وبناء المعارف وتطويرها من خلال تبادل الرأي وانفتاح كل من طرفي الحوار على خبرات الآخر.
وفي الحوار يفتح كل من المحاورين نافذة للطرف الآخر؛ ليريه من زاوية أخرى بعض الحقائق التي لم يرَها من قبل؛ لأن كل إنسان يشاهد الظاهرة الواحدة من زاوية معيّنة، فما يراه شخص قد لا يراه الآخر. وفي الحوار يساعد كل من المتحاورين الطرف الآخر ليرى الظاهرة من زاوية أخرى، وبهذا تكتمل صورة الحقيقة عند الطرفين، فيرتقي بذلك وعيهما نتيجة التعاون المشترك الذي أجروه لاكتساب الشمولية في الرؤية." (تنمية الوعي – ص 79)
إن جُلّ تفكيرنا متوارث ومنقول، ولذلك فهو غير قابل للتطور؛ لأننا نحرص على نقله بأمانة إلى الأجيال اللاحقة، كما نُقل إلينا بأمانة من الأجيال السابقة، خالياً من أثر التطور، ما زال في كيسه البلاستيكي جديداً، والحقيقة عكس ذلك فكثير ما يتصادم موروثنا مع قضايا عصرية ولا نجد له إجابة سوى التسليم به. ولهذا لا يجب أن نعجب عندما نرى أنفسنا في القاع متعاركين ملقين باللّوم على بعضنا بعض دون حلٍ بناء يُخرجنا من هذا الباطن، فأولوياتنا مشوشة ومضطربة. كأن نثبت للآخر أنه على خطأ، أهم عندنا من أن نحترم رأيه ونمضي به قدماً نحو مستقبل أفضل،
يقول علاء حسون في هذا الصدد كذلك: "ينبغي أن يعي كل من طرفي الحوار أنّ الحوار ليس ساحة لتأكيد الذات أو إظهار العظمة أمام الآخرين أو الغلبة عن طريق العراك الكلامي المشحون بالانفعال الذي يقود إلى الإحباط والتشنّج، بل الحوار ساحة يستعين بها الطرفان ليساعد كل منهما الآخر على الإدراك الذي يؤدّي إلى اكتشاف الحقيقة، وهو وسيلة ليتفّهم فيه كل منهما الرأي الآخر وأن يقارنه مع فهمه؛ ليتوصّل إلى القرار الصائب والنظرة الثاقبة، ولهذا لا يشترط في الحوار أن تكون الغاية توحيد الآراء في نهاية المطاف، بل المطلوب أن يشرح كل من الطرفين وجهة نظره للآخر، وأن يُري كل منهما الآخر ما لا يراه". (تنمية الوعي – ص 86)
التعايش في جميع الميادين لا يقتضي أن تكون من نفس مذهبي، بل يقتضي أن تقبل به ككيّان موجود لا بد منه، كما يقتضي مني المثل، وأن نعطي لأنفسنا الفرصة على الرغم من أن مذهبينا مختلفان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.