اسمحوا لي قرائي الأعزاء بأن أتحدث بكلمات يقرأها الجميع عن تجربتي في تربية الأبناء.. ليس من باب حب الحديث عن النفس، وإنما من باب نقل تجربتي الخاصة لإفادة الآخرين منها.
قبل أن أتزوج، كنت أحلم بابن لي، يكون امتدادي، أعلمه ما أعلم، وأنقل إليه خبراتي، وأحمِّله مبادئي وقيمي (رغم بغضي لفكرة الزواج في ذلك الوقت)، وقد كنت أقول دائماً: أريد أن يكون لي ابن مثالي، يكون نموذجاً في كل شيء.. حتى قالت لي إحدى الصديقات ذات مرة: وهل هناك إنسان مثالي أو نموذجي؟ لا تخدعي نفسك.. وآمل أن تخوضي تجربة الزواج والإنجاب لتغيري رأيك.. فلست أنت مَن تربين فقط، بل هناك الكثير من المؤثرات التي تؤثر في الأبناء وتجعل منهم عكس ما تريدين وترغبين، منعت نفسي من الرد على فكرتها، وأنا غير مقتنعة بقولها.
وتزوجت، وجاءت الطفلة الأولى، شديدة النشاط، كثيرة الفضول، تستكشف كل شيء حولها فتمد يدها إلى كل شيء تريد التعرف إليه، تسأل عن كل الأشياء، إن أجبتها على سؤال أمطرتني بعشرات الأسئلة غيره، وكان لها مع الكتب حكاية غريبة، ومغامرات كثيرة، لا أدري إن كانت علاقة صداقة حميمة أم علاقة عداء وبغض، فعندما كانت تحبو، وفي كل مرة تتمكن من الوصول للمكتبة،
كانت تُنزل أحد كتب والدها الطبية، التي كان يفوق وزن الواحد منها وزنها هي، وتقوم بتقليب صفحاته بهدوء شديد ناظرة إلى الصور الكثيرة، وتقلِّب الكتاب بصعوبة بالغة، ثم ما تلبث أن تبدأ بتمزيق ما تستطيع من صفحاته قبل أن أكتشف أمرها وأنقذ ما تبقى من الكتاب من بين يدَيها، وعندما كبرت قليلاً كانت تأخذ أي قلم تصل يداها له، وتنطلق إلى الكتب ترسم على صفحاتها الداخلية وأغلفتها خطوطاً كثيرة عشوائية، قد تكون أغلبها دائرية الشكل، ولم يكن يحوز إعجابها إلا أكبر الكتب وأضخمها، وعندما غدت فتاة يافعة، أصبحت قارئة نهمة.
أما بقية الأبناء، فلكل واحد منهم شخصيته الخاصة به واهتماماته وطريقته الفريدة في التواصل وإدارة الأمور من حوله، لم يكن أحد منهم صورة عن الآخر، أو حتى صورة عني أو عن والدهم، رغم أنهم يحملون الجينات ذاتها ويعيشون في البيئة نفسها، وتتم تنشئتهم وتربيتهم بالطريقة نفسها.
وها هم الآن كبار، أصغرهم في الخامسة من عمرها، وأكبرهم في العشرين من عمرها، أصحاب إرادة صلبة، يعتمدون على أنفسهم، يواجهون ما يعترض طريقهم من مشكلات ولا يهربون منها، قارئون جيدون ومثقفون، لكل منهم عدد من الأهداف يسعى لتحقيقه، ينجحون فيما يقومون به رغم إخفاقهم أحياناً، ما يميزهم أنهم لا يستسلمون للفشل، بل يتعلمون من تجاربهم الفاشلة وينهضون لمتابعة طريقهم.. لديهم عدد لا يحصى من السمات الإيجابية ولديهم سلبيات أيضاً.. أستطيع الآن تقييم تجربتي في الإنجاب والتربية بأنها ناجحة والحمد لله، إلا أن أحداً من أبنائي لم يكن مثالياً كما كنت أريد، فقد اكتشفت من تجاربي أن البشر ليسوا مثاليين، ففيهم الخير ولكن قليلاً من الشر يشوبهم، وإيجابيون رغم بعض السلبية التي تعتريهم.. مُتَحَدُّون رغم بعض الاستسلام الذي يرخي قبضته على إرادتهم أحياناً.
وأستطيع الآن أن أضع يدي على بعض الأسباب التي أسهمت في أداء مهمتي بنجاح:
أولاً: أن تكون نية الزوجين لله حين الانطلاق في طريق إنشاء أسرة، والابتعاد عن المعاصي، بدءاً من مراسم الزواج وجميع نواحي الحياة بعد ذلك.
ثانياً: التفاهم التام والمسبق بين الزوجين حول طرق التنشئة وكيفية التعامل مع مشكلات الأبناء، وكيفية تسيير الحياة الأسرية.
ثالثاً: الحب والإشباع العاطفي للأبناء إلى جانب الحزم والعقاب غير الجسدي حين يستلزم الأمر.
رابعاً: إجابة جميع تساؤلاتهم بانفتاح ومصداقية وعدم التهرب من الإجابة، أو إعطاؤهم معلومات كاذبة أو غير صحيحة.
خامساً: الشفافية بين الزوجين، والصدق، وعدم إخفاء أي شيء يخص الأسرة والأبناء عن رب الأسرة، وإقحامه باستمرار في أمورهم اليومية ومشاكلهم مهما كانت بسيطة ومهما كان مشغولاً، ومتابعته لتطورهم ونموهم، واستفساره اليومي عن أمورهم وكل ما يخصهم.
سادساً: إشراكهم في النقاشات الأسرية مهما كانوا صغاراً وأخذ رأيهم، وإشعارهم أنهم موضع ثقة.. ونقاشهم في عادات المجتمع السلبية والإيجابية وتوضيح لهم المشكلة في العادات والمظاهر المرفوضة.
سابعاً: غرس حب الله في نفوسهم وعمل ما يرضيه والابتعاد عما يغضبه وحب رسوله والصالحين وأصحاب العلم والأخلاق السامية، والفخر بمبادئهم وقيمهم وأخلاقهم وقناعاتهم.
ثامناً: عدم ترك الحبل على الغارب للمجتمع المحيط ليقوم هو بتربيتهم؛ حيث يتدخل جميع الأقارب في تربية الصغير، فيحدث لديه تضارب في المفاهيم وتشتت في الشخصية، حين يرفض شخص ما يقبله آخر، وحين يكون شيء محرماً داخل البيت بينما هو مباح خارجه.
ولم أنسَ أبداً خلال مشواري أن صناعة الإنسان على الفضائل والأخلاق وعلى ما يرضي الله هي أصعب وأسمى صناعة، وأنها الصناعة التي تبني المجتمعات وتُعلي شأن الأمم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.