المستهبلون في الأرض …
_ ماذا سيفعلون حين يتوقفون عن الركض ؟
_ سيركضون مجدداً !!
_ وماذا سيحدث حين تنتهي مأساتُهم ؟
_ سيبحثون عن مأساةٍ أخرى !!
_ ولماذا لم يتعظوا بغيرهم ؟!
_ لأنهم كغيرهم !!
***
لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين .. هكذا قال صلى الله عليه وسلم ..
ولأنهم يُلدغون من ذات الجحر ألف مرة ؛ فإن عليك أن تتوقف كثيراً قبل إسباغ صفةِ الإيمان على هؤلاء الملدوغين مِراراً وتكرارا !!
يحدثنا التاريخُ القريب أن مكماهون ، ولورنس ، سَيطرَ كلُّ واحدٍ منهما على حفيدٍ من أحفادِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليضربا بهما كيان الخلافة في مقتل !!
لم تكن الخلافةُ العثمانية آنذاك خلافةً بالمعنى المنضبط للخلافة ، بل كانت _ من الناحية الشرعية _ كثوبٍ ضم سبعين رقعة مشكلةَ الألوان مختلفات !! بيد أنها _ في النهاية _ كانت رايةً روحيةً ومعنويةً جامعةً للمسلمين على اختلاف أجناسهم وأعراقهم .. وحين بَهَتتْ شعلةُ الإسلام في نفوس أصحابها ، دارت عليها وعليهم رَحى السُنن الإلهية .. فطحنتها وطحنتهم !!
****
جاءت الرسالة الأولى من الشريف حسين لمكماهون ، تماماً كما جاءت الرسالة الأولى من ابن العلقمي لهولاكو !!
كلاهما عَرَضَ نفسه .. وكلاهما ابتغى العزة عند الكافرين .. وكلاهما قال : لله يا محسنين !!
ولا فرق _ في طلب المعونة من الكافرين _ بين رسالة ورقية ، أو مشورة في غرفة مغلقة ، أو وفدٍ يحج إلى الكونجرس ، أو مقالة في الواشنطن بوست !!
_ هل كان الشريف حسين عميلاً ؟!
_ لا أظن .. أو بالأحرى : لا أدري
_ هل كان يُدرك أن فعله هذا يُعدُّ خيانة ؟!
_ أيضاً لا أدري
_ هل كان أهبل ؟
_ بالتأكيد .. وجاء بعده مستهبلون خونة !!
انتهى ابن العلقمي عند التتار إلى "حالة أخس من الذباب" _ كما يقول الإمام السُبكي _ ؛ فكان يتلقى الإهانات من صغار جند التتار شتماً وصفعاً وركلاً ، حتى مات كمداً في بيته في ذات السنة التي سقطت فيها بغداد !!
وانتهى الشريف الهاشمي _ بعد تفاصيل كثيرة _ طريداً شريداً في قبرص يتدافع أبناؤه بينهم تكاليفَ الإنفاقِ عليه ، وحين أقعده المرضُ أعادوه ليدفن في القدس .. بينما مكماهون يجلس ساقاً على ساق في شُرفة فندق شيبرد بالقاهرة يحتسي شاي الساعة الخامسة وينفث دخان غليونه على صفحة النيل !!
كان ابنه (فيصل) أذكى أبنائه ، أو أغباهم ، لا فرق .. سيطر عليه لورنس ؛ فأبلى بلاءً حسناً في إسقاط خلافة جَدِّهِ صلى الله عليه وسلم مُمَنياً نفسه بمُلك العرب بعد أبيه الذي تمنى الخلافةَ عن طريق الاستعانة ببريطانيا التي عملت بالباع والذراع لإسقاط الخلافة !!
لم يهنأ فيصل بحكم سوريا بعد دخوله دمشق على أسنة رماح الجنرال ألنبي ؛ فقد أخرجوه للعراق تنفيذاً لمعاهدة سايكس بيكو التي جعلت سوريا من نصيب الفرنسيين .. وبعد ثلاثة عقود _ لم تحظ العراق فيها باستقرار كامل _ انتهى حكم الهاشميين هناك بمجزرة قصر الرحاب البربرية البشعة .
هكذا _ إذن _ بدأ تاريخ القومجية العربية .. هَبلُ رجلٍ حالم أدى إلى استهبال رجالٍ خونة !!
يعلمنا التاريخ أنّ (أبا رغال) ليس شخصاً ؛ بل حالة !!
ويعلمنا أيضاً أن آباء الرغال _ في كل عَصرٍ ومِصر _ لن يكفوا عن عرض خدماتهم على كلِّ أبرهة جديد ، سواءً أكان اسمه (مكماهون) أم (لورنس) أم (فيلبي) أم (وليم شكسبير) أم (بيرسي كوكس) أم (غلوب باشا) !!
ولو سَرِّحتَ طرفك في أي قُطر عربي من المحيط إلى الخليج وقرأتَ التاريخ الحقيقي للأسرة أو الفئة التي سيطرت عليه ، فلن تجد _ في أسلافها _ سوى مستهبلين خونة أو حمقى حالمين .. وعادةً ما ينتهي الحمقى الحالمون في مزبلةٍ من مزابل التاريخ تُقام على عَجل ؛ ليتسلم الرايةَ بعدهم مستهبلون خونة ينتهون في مزبلة أخرى مجاورة يُتأنقُ في بنائها على مَهَل !!
***
كل هذا _ وأبشع منه _ حدث ويحدث منذ ما يزيد على مائة سنة ، والأمثلة في التاريخ القديم أكثر من أن تُحصى !!
يبدأ الأمرُ _ عادةً _ برسائل مكماهونية (أو بمقالةٍ في صحيفةِ مكماهون نفسِه) ، ثم بلقاءٍ في دولة عربية حليفة ، ثم بإملاء شروط ، ثم بإمدادات سلاح ، ثم بتحالف كامل ، (ولا بأس بقراءة الفاتحة _ بعد ذلك _ طلباً للبركة!!) .. ثم بخازوق يخرج من الرأس مع عار الأبد ولعنات الدهر !!
هذه هي دركات الهبل والاستهبال ، ولا فرق في هذه الدركات بين مستهبل قومجي علماني ، ومستهبل إسلامي مقاصدي !! كلاهما يَسقطُ ويظن في نفسه الصعود ، ويَنحطُّ ويظن في نفسه العلو ، ويَذِل ويظن في نفسه العز !!
بيد أنك تتجاوز _ بقرفٍ أحياناً _ عن استهبال العلمانيين على اختلاف مشاربهم في العلمنة ،(ربما لأنك تشعر أن الاستهبال والاستعباط والتحامق صفات لازمة للعلماني ؛ إن زالت عنه زالت عنه العلمانية !!)
أما المستهبل الإسلامي فإنك لا تستطيع _ مع عَصْرِ كثيرٍ من الليمون _ تجاوزَ استهبَالِه ؛ لأن استهبَالَه جحيمٌ لا يُطاق .. خاصةً إذا هداه استهبَالُه لافتعال تأصيلٍ شرعي للاستهبال !!
كان (صلح الحديبية) مثالاً أثيراً لمستهبلي الإسلاميين ، تماماً كما كانت (صحيفة المدينة) مثالاً أثيراً لمستهبلي العلمانيين .. وكنتُ أظن أن الطرفين المستهبِلَيْن سيكفان عن الاستهبال بعد سيل ما يُسمى بالربيع العربي ، ولكن يبدو أنني كنتُ مخطئاً !!
يمارسُ العلمانيون (تأويلاً حداثياً بشعاً للتراث) .. تماماً كما يمارس بعضُ الإسلاميين (تأويلاً مقاصدياً أبشع للتراث) .. ومع اختلاف المنطلقات تظل الآليات واحدة .. لن تجد كبيرَ فرقٍ بين من يستخدم مصطلحات الإسلاموية والماضوية ، والحداثة وما بعد الحداثة ، وبين من يستخدم مصطلحات فقه الواقع ، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح !!
ستجد في تاريخ المسلمين _ خاصةً في العهد الأول _ أمثلة كثيرة يمكن لأصحاب الأيدلوجيات المختلفة استخدامها بأريحية كبيرة لتتوافق مع أيدلوجياتهم .. صلح الحديبية ، صحيفة المدينة (رغم تضعييف البعض لها) ، الاستعانة بسلاح صفوان بن أمية في حُنين ، ثلث تمور المدينة في الأحزاب (لم تتم) ، درء الحد بالشبهة في عام الرمادة ، التدرج في تحريم الخمر ، صبر الرسول صلى الله عليه وسلم على منافقي المدينة ، لوازم الاستضعاف في العهد المكي ، موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من تصرف حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه قبل فتح مكة ، التفاصيل الكثيرة حول ما شجر بين الصحابة بعد عصر النبوة .. هذا عدا آلاف الآراء لآلاف العلماء في أبواب الفقه الخاصة بالسياسة الشرعية ، مضافاً إليها إمكانية استخدام آيات القرآن الكريم ذاته وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في جر القرص إلى نارك !!
يَكمن الإشكال في تحديد الإشكال ، أو كما يقول الفقهاء : (تحرير محل النزاع) .. سيمارسُ عليك المستهبلون _ من الطرفين _ إرهاباً معلوماتياً تجميعياً لتضيع بين الوقائع وتنزيلاتها !!
قد تكون الواقعة القديمة صحيحة ، ولكن تنزيلها على الواقع الجديد بشع !! لا تنظر إلى كثرة الوقائع التي يسردها لك الأهبل أو المستهبل ، ولكن أَعْمِل عقلك في الواقع الحديث ثم انظر إلى تفاصيل الواقعة القديمة !!
(السياق والمآل) هما منطلقُك لحفظ عقلك من الإرهاب المعلوماتي التجميعي الذي يمارسه عليك المستهبلون !!
سيقول لك العلماني المستهبل : إن عمر أسقط حد السرقة عام الرمادة ، ولا يمكن لعمر ولا لغيره أن يسقط حداً من حدود الله ، ولكنه دَرَءَ الحدَّ بالشبهة .. بيد أن العلماني اختار من ألفاظ بعض الفقهاء لفظ (الإسقاط) وليس لفظ (الدرء) ؛ ليغرسه في عقلك ، وبينهما بون شاسع .. ومع تتابع المشكلات الاقتصادية وتوالي الأزمات ستقتنع بإدامة (إسقاط) الحد ، وكأنك تعيش في عام رمادة منذ خروجك من بطن أمك إلى دخولك لبطن الأرض !!
سيقول لك الإسلامي المستهبل : إن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بسلاح صفوان بن أمية في حنين .. ولكنه _ ربما _ لن يقول لك إن معركة حنين هذه وقعت بين المسلمين والمشركين وليس بين المسلمين والمسلمين ، ولن يقول لك إن صفوان رضي الله عنه كان آنذاك لا يملك من أمر نفسه شيئاً ؛ فهو طليق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضلاً عن أن تكون له قوة في ذاته يهدد بها المسلمين ، وكان الإسلام هو القوي المنتصر المسيطر !!
( السياق والمآل) يا عباد الله .. السياق والمآل !!
وإن كان السياق والمآل قد عُمِّيا على الشريف حسين (هذا بافتراض تفكيره في الأمر) فإن مآل عمل الشريف حسين لم يعد مُعَمّى علينا نحن الآن ، بل اتضح له هو ذاته آخر أيامه .. فَعَمَلُه _ إن أحسنا الظن فيه _ خطيئة بشعة ارتكبها هو بهبل ، بينما تقليدنا نحن له في عمله استهبالٌ خائن نرتكبه بعد معرفتنا مَآلَ عمله!!
****
ثوبوا إلى رشدكم إن كان بقي منه شيء ، فإن إحساننا الظن فيكم لا يعني التجاوز عن الهبل الحالم الذي سيؤدي إلى الاستهبال الخائن !!
وتذكروا .. أن كعب بن مالك رضي الله عنه _ أحد الثلاثة الذين خُلِّفوا _ أَمَّ التنور برسالة ملك غسان فأحرقها قائلاً :" وهذا أيضاً من البلاء" ، وكان في الرسالة :" بلغنا أن صاحبك قد قَلاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك " وكان آنذاك في أشد حالات ضعفه البشري " حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم " ولكنه أيقن أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، وليس إلى ملك غسان أو أمريكا وأوروبا والمجتمع الدولي والنظام العالمي !!
تذكروا أيضاً .. أن معاوية رضي الله عنه كتب لقيصر الروم على ظهر رسالته _ حين أراد قيصر أن يتخابث ويدخل بينه وبين علي رضي الله عنه في حربهما _ :" أخان قد تشاجرا فما بالك تدخل فيما بينهما وتُعلي من نباحك ، إن لم تُخرِس نباحك أرسلت إليك بجيشٍ أوله عندك وآخره عندي يأتونني برأسك أقدمه لعلي " .
وتذكروا أيضاً .. أن المعتمد بن عباد _ على ما فيه من مثالب _ قال _ حين خوفوه من ابن تاشفين :" لأن أرعى الإبل عند ابن تاشفين خير من أن أرعى الخنازير عند ألفونسو " .
إذا كانت أقصى أمانيكم أن تكونوا كالمناذرة والغساسنة فاعلموا أن النعمان بن المنذر انتهى تحت أرجل الفيلة ، بينما هانيء بن مسعود الشيباني عاش _ بعد ذي قار _ بشرف العمر كما عاش _ بعد موته _ بحسن الأحدوثة .
إذا كانت أقصى أمانيكم أن تكونوا كملوك الطوائف فاعلموا أن أبا عبدالله الصغير بكى على غرناطة كالنساء بعد أن ضيع مُلكاً لم يحافظ عليه كالرجال !!
إذا كانت أقصى أمانيكم أن تكونوا كحكام هذه الأكشاك العربية في القرن العشرين فاعلموا أن بن علي هرب ، والقذافي قُتل ، ومبارك أُجبر على التنحي ، وعلي عبدالله صالح أكلت النارُ وجهَه ، وبشار لم يعد يأمن على نفسه في غرفة نومه .. ومهما حدث في هذه الثورات من انتكاسات فيقيني أن لصوص هذه الأكشاك في هذا الجسد العربي الممزق سيؤول ملكهم إلى زوال !!
لقد أخرَجَتكُم الثوراتُ العربية من الذل والصغار في منافي وسجون الأرض ، فلا تكونوا كالذين جاوز اللهُ بهم البحرَ بمعجزة ؛ فكان أول ما قالوه لموسى _ حين أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم _ : " اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة " !!
اعلموا أن الأمريكان كالحانوتية .. رأسُ مالهم جُثث !!
والطريق إلى جهنم مفروشٌ بالنوايا الحسنة !!
والضوء في نهاية النفق ليس مخرجاً .. بل قطارٌ قادم !!
تحياتي .. إن أردتموها .
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.