"لا يزال الإنسان يسعى لفك شفرات هذا الكوكب الأزرق المُعلق في الفضاء، ونحن نسعى أيضاً لفك شفرات الإنسان لمعرفة من هذا العِملاق الصغير الذي حكم الطبيعة لعهود طويلة من الزمن إلى الآن استأنس وحوش البريّة، وروَّض الحيتان في المحيطات -خرج من أرحام كهوف إفريقيا مهد الإنسان الأول ليُسطر تاريخ الحضارة الإنسانية، انطلق بكامل قوته العقلية والفكرية قاطعاً أعصراً وأزماناً كُثراً ليغزو الكواكب المجاورة- ما زالت أتذكر كلمات السير كلينتون عام 1992م، عندما خرج على العالم في مساء يوم الاثنين ليُعلن عن انتهاء مشروع الجينيوم البشري، قائلاً: "اليوم انتهى العُلماء من فك الشِفرة التي كتب بها الرب أقدارنا"، منذ ذلك الأمد القريب ونحن نسعى لمعرفة النظام البيولوجي ونبحر في معرفة الجينيوم البشري لكشف النقاب عن هذا السر الأعظم، وعن هذه الأحرف التي كُتب بها فصول كِتاب الحياة، ولكن هل هنا انتهت الحكاية؟".
أحياناً تكون الحقيقة جليّة واضحة وضوح الشمس أمام أعيننا، ولكن بطابعنا البشري نُخطئها فحتى عام 1955م كان هناك إجماع على أن الإنسان يحمل أربعةً وعِشرين زوجاً من الكروموسومات، لقد كان هذا الزعم الواهي من الحقائق المُطلقة السائدة داخل المُجتمع العِلمي، بدأت تلك الحكاية عام 1921م على يد الباحث "ثيوفيلوس بيتر" من أبناء مدينة تِكساس، عِندما قام بتقطيع خِصي ثلاثة رَجال أسودين وأبيض، تم إخصاؤهما (لإصابتهم بالجنون)، فقام بتقطيع تلك الخِصي إلى شرائح صغيرة، وعمل على فصل الكروموسومات المُتشابكة، وعدّها، فزعم أنها أربعة وعشرين زوجاً من الكروموسومات، ظلت هذه الحقيقة زاهية لمُدة تزيد عن الثلاثين عاماً لدرجة أن عُلماء الفسيولوجي تركوا العمل على أبحاثهم على الكبد البشري؛ لأنهم وجدوا أن عدد أزواج الكروموسومات هي ثلاثة وعشرين زوجاً فقط، مما أصابهم بالإحباط والدهشة!
وظل هذا الأمر مُبهماً إلى مُنتصف القرن العشرين تقريباً عام 1955، إلى أن سافر طالب إندونيسي يُدعي (جوه هِيين) من إسبانيا إلى السِويد؛ ليعمل مع أستاذه عالم الجِينات الشهير (ألبرت لِيفان)، واستخدموا وقتئذ تقنية المِجهر الإلكتروني التي تم إطلاقها عام 1931م، وهنا اتضح لهم أن الخلايا البشرية تحمل ثلاثةً وعشرِين زوجاً من الكروموسومات فقط، وعِندما راجعوا الصور التي اُلتقطت من قِبل ثيوفيلوس بيتر، وجدوا أن العِينات التي استخدمها في الدراسة كانت تحمل نفس العدد من الكروموسومات التي قاموا بإيضاحها، وليس أربعةً وعشرين كما زعم أنصار هذه الفرضية، حقاً إن الأعمى فقط هو من لا يرغب في الرؤية!
وفي الحقيقة إن هذا الأمر يدعو للدهشة ليس لكونها حقيقة علمية، ولكن الدهشة في كوننا نملك أربعة وعشرين زوجاً من الكروموسومات، وكذلك الشمبانزي أيضاً يحمل نفس العدد، فهل من بين فصيلة القِردة العُليا نحن استثناء؟ ولكن تحت الميكروسكوب يتضح لنا أن أكثر الاختلافات وضوحاً هي أننا نملك زوجاً أقل من الكروموسومات.
ليس فقط لأننا فقدنا هذا الزوج من الكروموسومات أثناء رِحلتنا التطورية، ولكننا اتضح على الفور أن السبب وراء ذلك هو أنه امتزج نوعان من الكروموسومات ببعضهما البعض بداخلنا، ونتج الكروموسوم الثاني (2) الذي يُعد أكبر الكروموسومات البشرية على الإطلاق،-وهو ما يمكن رؤيته من وقائع الشرائط الكروموسومية تكون نتيجة اندماج كروموسومين لكائن ما، فهل هذا الكائن إنسان فريد من نوعه كان الجد الأكبر والخان الأعظم لنا معشر الإنسان؟ أم انتقل هذا الكروموسوم الأعظم إلينا من أحد القرود متوسطة الحجم؟
"لقد ذكر البابا يوحنا بولس الثاني في رسالة للأكاديمية البابوية للعلوم في الثاني والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول لعام 1996م، أنه توجد فجوة وجودية بين أسلاف القِردة والإنسان الحديث، وهذه هي النقطة التي من المُفترض أن الرب نفخ الروح فيها في هذه السلالة الحيوانية، وبهذه الفرضية تتفق الكنيسة مع نظرية التطور"، وتعقيباً على كلام البابا ربما هذه الفجوة التي اندمج فيها الكروموسومان المجهولان لتكوين الكروموسوم الثاني (2)، الذي يُعد الحلقة المفقودة والفصل الأكثر غُموضاً في تاريخنا البشري.
ولكن رغم هذا فنحن البشر ومعنا البابا نفسه لسنا ذُروة التطور، ولا يوجد بارتقاء سُلم التطور، فالانتخاب الطبيعي هو ببساطة هو عملية تتغير فيها أشكال الحياة؛ لكي تتوافق مع ذلك العدد الكثير من الفرص التي تقدمها البيئة المادية وغيرها من أشكال الحياة الأخرى، ويمكننا الزعم هُنا أن "البكتيريا والفيروس المُسبب للبرد أكثر تطوراً على المستوى الجيني من مُدير عملك؛ لأنه كُلما كانت فترة عمر الجيل قصيرة، ساهم في التنوع الجيني وتطوره".
إن قصة تطورنا نحن الرئيسيات عديمة الشعر وافر العدد الذي نشأ في إفريقيا ليس إلا حاشية موجزة في تاريخ الحياة؛ لذا نحن البشر نجحنا على المستوى البيئي، فنحن أكثر الحيوانات الكبيرة عدداً فيبلغ عددنا نحو ستة مليارات فرد، أي ما يُعادل ثلاثمائة مليون طن من الكتلة الحيوية، ورغم هذا فنحن مُتشائمون تِجاه المُستقبل!
هذه القصة بدأت منذ عشرة ملايين عام في جِبال إفريقيا، مهد الهومو، كانت هُناك سلالتان؛ إحداهما أسلاف الغوريلا، والثانية أسلاف الشمبانزي، ولكن لسبب ما انعزلت جماعات الغوريلا إلى أعالي الجِبال، فاحتفظت تلك العشيرة بأصولها الوراثية، أصول نقية تماماً.
أما جماعات الشمبانزي بعد مرور 5 ملايين عام حدث شيء ما، أكبر من الطفرات المعهودة لدينا غيرَ برنامجها الجينيومي، فانقسمت إلى جماعتين على أغلب الظن، إحداهما كان سلف الإنسان الحديث.
سبب معرفتنا بتلك القِصة وسردها هو أنها محفورة في جيناتنا، وأن جيناتنا تتشابه بنسبة أكبر من 98% من جِينات الشمبانزي، ففي عام 1950 م كتب عالم التشريح المشهور (جِيه زاد يانغ)، وأوضح أنه غير واثق أن الإنسان انحدر من سلف مُشترك مع الشمبانزي، ولكن هُناك صِلة قرابة كبيرة على المستوى الجينيومي، وأن هُناك حلقة مفقودة مُخبأة في جُعبة الطبيعة عن أصولنا نحن البشر قد تكشف لنا يوماً ما، أو ربما ستظل دفينة هُناك في جِبال وكهوف جوهانسبرغ في إفريقيا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.