تحدثنا في مقالنا السابق عن أهمية مراجعة فقهنا في التعامل مع غير المسلم.
وبينا السبب الفكري والفقهي الأول وراء وجود نظرة توحي بالتعامل مع غير المسلم معاملة توحي بالانتقاص، أو عدم التعامل مع الآخر الديني بشكل يحقق له المساواة والعدالة في المجتمع الإسلامي، وأنه: تناول قضايا جزئية تتعلق بفقه غير المسلم بعيدا عن كليات الإسلام، وهو ما نبه عليه العلماء بشكل عام، أن الفقيه الحقيقي هو من يتناول الجزئيات في ضوء الكليات، ويقول في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية: (نذكر (قاعدة جامعة) في هذا الباب لسائر الأمة فنقول: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم". انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (19/203).
والسبب الثاني وهو ما نتناوله في مقال اليوم، هو: تناول قضايا فقهية تخص غير المسلم عن طريق نصوص تنزع من سياقها، وتُفهم بعيدا عن مقاصدها وملابساتها، ومن ذلك: استشهادهم بقوله صلى الله عليه وسلم عن اليهود: "لا تبدأوهم بالسلام وإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطريق"، وهو حديث ورد في حالة حرب النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود وهي -كما قال الإمام ابن القيم- قضية خاصة لما ساروا إلى بني قريظة، وقد قاموا بالتعاون مع الأحزاب ضد الدولة التي أقاموا فيها (المدينة المنورة)، وارتكبوا ما يسمى في زماننا: (الخيانة العظمى)، فقال لهم صلى الله عليه وسلم ذلك.
فكيف يتعامل المسلم في زماننا هذا إن طبق الحديث بظاهره دون التعمق في معناه وأسراره ومقاصده، فهل سيقابل المسلم المسيحي في مصر فيضيق عليه الطريق، وكأن الطريق ملكا له دون غير المسلمين؟! وماذا يفعل المسلم في الغرب مع أهل البلد من غير المسلمين، هل يضيق عليه الطريق، بينما هو ضيف في بلادهم، أو مقيم أو متجنس بجنسية البلد، رغم أن الطريق رصف ومهد بمال الضرائب التي يدفعها المسلم وغير المسلم على حد سواء؟!!
تجد من يمنع ذلك يستشهد بقوله تعالى: "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" (النساء: 141)، وهو نص ليس واردا في الموضوع بتاتا، وبالعودة لكتب التفسير يتضح ذلك، فقد قال ابن الجوزي في تفسيره: "فيه ثلاثة أقوال: الأول: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يسيع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلا جاءه، فقال: أرأيت قول الله عز وجل: ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: ولن يجعل الله للكافرين يوم القيامة على المؤمنين سبيلا. هذا مروي عن ابن عباس، وقتادة.
والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس.
والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي: لم يجعل الله عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإخراج من الديار) انظر: زاد المسير (1/488).
وقال العلامة القاسمي في تفسيرها: (أي: لن يسلط الله الكافرين على المؤمنين فيستأصلوهم بالكلية. وإن حصل لهم ظفر حينا مّا. أفاده ابن كثير وهذا التأويل روعي فيه سابق الآية ولاحقها، وأن السياق في (المنافقين) وهو جيد. ويقرب منه ما في تفسير ابن عباس من حمل (الكافرين) على يهود المدينة. ومن وقف مع عمومها، قال: المراد بالسبيل الحجة. وتسميتها (سبيلا) لكونها موصلا للغلبة. أو المراد: ما دام المؤمنون عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر) انظر: محاسن التأويل للقاسمي (3/377). وهو ما جزم به العلامة الطاهر ابن عاشور أن الآية لا علاقة لها بالتشريع، فقال: "فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبو المقام عن هذين" انظر: التحرير والتنوير (5/238).
وكما نرى فالآية تتحدث عن موضوع مختلف تماما، وليس في مسألة تولي غير المسلم رئاسة الدولة، وليس في القضية حديث نبوي واحد، ولا آية واحدة صريحة في الأمر، لكن يستشهد بنصوص عامة كما نرى، وينتزع النص من سياقه وموضوعه، ليستشهد به في الموضوع، بغض النظر عن موقف الفقهاء من المسألة، وإن اختلف فيها الفقهاء المعاصرون بين مجيز ومانع، وإن كنا مع الإجازة، وذلك لاعتبارات يطول شرحها في هذا المقال.