كنت أنا هذه الطفلة التي تنكمش داخل ذاتها كسلحفاة صغيرة ما إن يقام سرادق عزاء في حارتنا، الطفلة التي بكت بكاء مراً كي تمنع أمها من حضور دفن الجدة؛ خوفاً من أن نلتقي هذا الشبح العجوز فيخطفنا في جعبته، ويمضي بنا.
كنت إذا سار الموت في شارع أهرول في الشارع الموازي خوفاً من أن تتقاطع بنا السبل، فكيف وبعدما مرت كل تلك السنين تصاحبنا، صِرت أحمله على كتفي كما يحمل السندباد ياسمينته الفصيحة وأمضي.
في كل يوم حين تنتهي جلبة الحياة وثرثرتها، يجلس معي فيحكي لي عن الأبدية، نزع مخاوفي من يوم القيامة حين ذكر لي أن يومها سيجمعنا الله في ساحته المليئة بالورود، وأنه سيحكي لنا قصة الخلق الأولى وأنفاسه التي نفخها فينا، وأنه ساعتها ستذوب قلوبنا من فرط المحبة.
سألته عن نادين شمس، وهل سحرت أهل العالم البعيد بجمالها وروحها الآسرة؟ ضحك كثيراً وهو يحكي عن البهاء الذي يسكن تلك البقاع البعيدة، سألته: وهل ما زال سيد فتحي يحتفظ بابتسامته الطيبة؟ فأخبرني عن ذلك الصفاء في شلالات المجهول، الذي يتدفق في أرواحهم فيمنحهم المزيد من السكينة.
هل ما زال البراء أشرف يحدق في السماوات فيلتقط أطياف المعاني؟ أخبرني بأنه هناك قطوف المعاني دانيات.
هل ما زال عماد هندي يغنّي؟ فقال لي إن هناك في الجنة، الموسيقى لا تنقطع، سألته عن أمومة أمل محمود وعن حكمة عزازي، فأخبرني أن هناك الحكمة المطلقة والحنان المطلق، أراني صورة حديثة لأبي وأمي مبتسمين في أمانهما الأخير، لم أجد بُداً من الكف عن الأسئلة وإرسال السلام أخيراً إلى صديقي هاني زكريا الذي تصاحبنا ولم نلتقِ.
أعلم أنني أكون بخير كلما كنت على حافة الموت، لا يعني هذا أن لديَّ خبراً سيئاً أو أنني مقبلة على الرحيل، فأرجو أن تكفّوا عن البكاء، أن تكفّوا أيضاً عن الخوف من ذلك المجهول اللطيف، تريدون الحقيقة أعتقد أنني سأعيش طويلاً؛ لأن صداقتي مع الموت تمنحني هذا الإكسير الذي يهزم غرور الحياة، كفّوا عن مخاوفكم ودعوني أحكي لكم عن صديقي الجديد.
كنت أصحو في كل صباح أتساءل عن وعورة هذه الرحلة وكيف سأتمكن من إتمامها مع كل هذه الأحمال فوق ظهري، أعدّد البوابات التي يتعين عليَّ عبورها، والاختبارات التي ينبغي عليَّ أن أخوضها، أقيس حجم الحزن في قلبي وأراقب نموه، لا أكفّ عن الانشغال بكل هذا الألم إلا حينما يشغل الموت المساحة الأكبر في عقلي فيخطفني بعيداً في مساحته المليئة بالغموض والجلال.
أقول لصديقي إنني أكون أفضل دائماً كلما كنت على حافة الموت، في هذه المساحة الغائمة بين الموت والحياة أعيش أجمل أيامي، تكف الحياة أخيراً عن معاملتي كزوجين ملَّ كل منهما عِشرة الآخر، أتدلل عليها فتدللني، وكلما كانت نتائج فحوصاتي غير آمنة أكف عن الانشغال بمتاعب الحياة وأظل أحدق في بوابة العبور الأخيرة وسحرها اللانهائي.
كانت أمي تعتقد أن الطفل الذي يولد باسطاً كفَّيه هو ابن موت وأنه سيرحل سريعاً؛ لأنه لم يقبض بكفَّيه على الحياة كما ينبغي، وكانت تمنحه مهلة لأربعين يوماً تبدأ منذ ولادته يمكنه أن يتعلم خلالها فن الإمساك بالحياة، لقد أتممت عامي الأربعين يا أمي ومن يومها تعلمت نظرية جديدة تماماً، سأبسط كفي تماماً تاركة الحياة تنساب من خلال أصابعي كشلال من النور الكثيف، وساعتها فقط سندرك الحقيقة الأبدية، أن هذه الحياة ليست صلبة كما كنا نعتقد، وأن المرآة التي كنا نحدق فيها ليست سوى سطح بحيرة شاسعة، ساحرة، إنها سائلة يا أمي أكثر بكثير مما نتصور، هذه الحقيقة التي أدركتها هي تعويذتي للبقاء.
تظن طبيبتي الطيبة أنني وافقت على اتباع خطة الصوم الطبي أملاً في الشفاء، لا تعلم أنني أحببت خطتها العجيبة؛ لأنها تتناغم مع فضيلة الاستغناء، فها أنا أظن أن الطفلة التي كانت تلهو بلعبتها / الحياة، جلست أخيراً على الرصيف تمارس متعة تهشيم الألعاب، أعلم أن الدواء لا يكمن في العقاقير ولا في وصفات الأطباء، لا شيء سيشفيني سوى تلك الابتسامة التي ترتسم على وجهي وأنا أشاغب الحياة وألاعبها كما يليق بمكرها الأبدي.
إن قلبي سيشفيني فقط في اللحظة التي ستطيب فيها جراحه. يقول لي الموت إن ثمة عصفوراً ينتظرني على الضفة الأخرى، وإنه سيحكي لي الحكاية التي أحبها؛ لذا فإن قلبي معلق هناك في كريستالة تلمع بعيداً جداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.