أسكن في بروكسل في عمارة ضخمة بناها المهاجرون الطليان في فترة ما بين الحربين، ورغم ذلك ما زالت تحتفظ برونقها وجمالها، والعمارة مكونة من سبعة طوابق، في كل طابق شقتان، ولكل شقة مخزن في أسفل العمارة، بالإضافة لحجرة صغيرة في أعلاها، تحت السقف مباشرة، كانت مخصصة قديماً لخادمات الشقق لذا تسمى "حجرة الخادمة"! بعد أن سكنت فيها، وفي أول اجتماع للسكان والملاك دهشت جداً لهذا الخليط من الجنسيات والديانات التي أسكن معها، من بلجيك وفرنسيين وألمان وآيرلنديين وإيطاليين وهولنديين وسويديين، وكانوا كذلك من حيث المعتقد يهود وكاثوليك وبروتستانت وملحدين،
وآنذاك رحب بي أحد السكان، يهودي فرنسي، قائلاً: "الآن لدينا ساكن مسلم، وبذلك تكتمل التشكيلة الإلهية في عمارتنا"، وقالت لي إحدى الملاك وهي فلمنكية: "هذا المكان الذي نجتمع فيه كان مطبخ الخادمات، ربما أنا آخر من رأت الخادمات في هذه العمارة في الخمسينات".
وخلال السنوات العشر التالية مات تقريباً نصف من رأيتهم في المرة الأولى، وحل محلهم الورثة أو الملاك الجدد من جنسيات أوروبية أخرى، وبعد فترة من اللقاء الأول ظهرت بيننا "فراو بياتا" الألمانية العجوز التي فرحت بالتعرف عليّ، وقالت إنها قضت أغلب حياتها مع زوجها الدبلوماسي الألماني في البلاد العربية، خصوصاً في الجزائر، وكانت تعرف العربية بالفعل، وعرفت أنها وزوجها اشتريا الشقة حتى يقضيا فيها شيخوختهما، وأن ليس لديهما أطفال، ولا يريدان العودة لألمانيا، وكانت شقتهما أجمل شقة في العمارة، تقع في الدور الأول على اليمين ويتبعها النصف الأكبر من حديقة العمارة المترامية، وكان ابني الصغير كلما رمى بشيء في حديقتها تضعه في شنطة بلاستيكية وتصعد في المصعد حتى تعلقه على باب شقتنا دون أن نشعر بها.
وكلما جاءنا طرد ونحن في الخارج تسلمته وأحضرته لنا في المساء، وفي أحد الأيام بعد الحوادث الإرهابية في بروكسل عاد ابني الأول من المدرسة مبكراً، وكنت قد نسيت هذا التغيير الذي أخبرتنا به المدرسة، نزل الولد من الأتوبيس وسار حتى البيت ووقف أمام الباب ينتظر، وقبل أن تصعب عليه نفسه ويبدأ في البكاء رأته "فراو بياتا" ففتحت له الباب واستضافته في شقتها، وصنعت معه عصير برتقال طازجاً، ثم جلسا في الحديقة يتحدثان ويشربان العصير، وبعد أن عدت للبيت وبينما أسرع لانتظار أتوبيس المدرسة سمعت ضحكة ابني في الحديقة فتعجبت ونظرت من الشرفة فوجدته معها في الحديقة وأمامهما أكواب العصير الفارغة وهي تحكي له حكايات مسلية، وبالطبع نزلت سريعاً وتأسفت للولد حتى رضي وغفر سهوي.
وبعد عدة أسابيع زارتنا "فراو بياتا" في شقتنا ومعها مخدة "تومشي" ضخمة، وقالت إنها تحب هذا الـ"تومشي" منذ أن كانت صغيرة لنعومته ودفئه. وأنها ومنذ طفولتها كلما قدُم "تومشي" اشترت واحداً جديداً، وأن هذا الـ"تومشي" الذي معها هو آخر واحد اشترته، وتريد أن تهديه لابني حتى يتذكرها، ولم نسأل لماذا، ولكن ابني الذي أصبح يحبها ويعُدها صديقته أمسك بالتومشي واستأذنا فوافقنا بالطبع! ومذاك ونحن نطلق عليها فيما بيننا لقب "مدام تومشي".
وأذكر أنني تشجعت مرة وسألتها عن زوجها فقالت إنه مات في الجزائر قبل أن يخرج على المعاش، وإنها نقلته إلى مقبرة العائلة في ألمانيا ثم جاءت وحدها للعيش في بروكسل كما كان مخططاً، وإنها تزوره في المناسبات ثم تعود لشقتهما.
وبعد فترة تصاحبت "مدام تومشي" على ساكنة آيرلندية عجوز مصابة بروماتيزم المفاصل وتعيش في شقة صغيرة في بدروم العمارة إلى جانب المخازن. وكنت أراهما أغلب الوقت معاً، ولكني لم أعرف قط حكاية هذه الآيرلندية العجوز، ولا لماذا تعيش في شقة البدروم الصغيرة، وكنت ألاحظ أن الصداقة التي بينهما تنمو بسرعة كبيرة فأقول لنفسي: "هذا أفضل من الوحدة الباردة".
وبعد فترة أخرى لاحظت أن الحالة الصحية لمدام تومشي تتدهور سريعاً، وقد قابلتها مرة وهي تفتح صندوق بريدها فحييتها وسألتها كالمعتاد عن أحوالها، فاستوقفتني وقالت لي بأنها ستبيع شقتها، وأرادت أن أدخل لأرى الشقة ربما اشتريها فقلت لها "شكراً أنا أعرف تقسيمة الشقق هنا، ولكني لا أفكر في شراء شقة"، ثم سألتها: "ولكن لماذا تبيعينها وهي كما أعرف من أفضل أنواع الشقق في بروكسل؟!" فقالت: "بل أجملها أيضاً؛ لأنها بنيت بين الحربين، وقد بناها المهاجرون الطليان، لاحظ جمال الفسيفساء والأرضيات!". وظننت أنها تخفي شيئاً فسألتها متعجباً "إذاً لماذا تبيعينها؟!"، وهنا صارحتني بأن الأطباء اكتشفوا منذ عدة أشهر أنها مصابة بالسرطان. ورغم صدمتي للخبر أضافت: "أمامي عام ونصف على الأكثر، ولذا قررت أن أبيعها وأؤجر شقة، وسأصطحب معي فيكتوريا الآيرلندية لنعيش فيها معاً حتى يحين الأجلـ"،
وعندما كنت أتأمل وجهها الذي ضمر سريعاً قالت لي: "لا أريد أن يراني من عرفتهم هنا عندما يتمكن مني المرض"، هنا ظهر عليَّ التأثر الشديد وهرب منّي الكلام فلم أنطق، فكأنها أرادت أن تواسيني أنا فقالت: "مهما عملنا في هذه الحياة سنكون في النهاية وحدنا، بمفردنا، فلماذا كل هذا العناء؟! فقط كي نترك ذكرى طيبة لا غير. وأنا لهذا سآخذها معي رغم فقرها، حتى نتسلى معاً، وهذا أكثر من المال الذي سأدفعه لها في الإيجار وأفضل من بيوت العجزة. أنا لا أحب القطط ولا الكلاب، وكنت أتمنى دائماً تبنّي طفلة إفريقية، ولكني لم أحقق أمنيتي كأمنيات أخرى كثيرة لكن هذه هي الحياة".
وبعد شهر اختفت مدام تومشي من العمارة دون أن تترك عنوانها الجديد، تركت بصمتها وانصرفت بهدوء، وكان ابني يسألني عنها طوال الوقت ولا أعرف بماذا أجيب، واليوم فقط عرفت من أحد الجيران أنها ماتت، فأخبرت زوجتي، ثم أضفت: "بروكسل هذا ستقضي علينا، كلما تعرفنا على أحد إما ينتقل لمكان آخر أو ينتقل للعالم الآخر، فماذا سنفعل عندما يحين دورنا؟".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.