إنها حربٌ مفتوحةٌ دون قوانين أو أعراف، وحربُ البقاء يا سيدي مؤلمة، فجزءٌ كبير من الذاكرة يُجهض!
هل خضت حربَ بقاءٍ من قبل؟
هل تعرف مخاض الذاكرة؟
هه.. هراء!
إن مثلك أجبنُ من أن يخوض معركة، إن مثلك يمحو ذاكرتهُ بكبسةِ زر، يخلعُ سنواتهِ السمان كما تخلعُ ذوات الدم البارد جلودها فقط ليقال عنه منتصر، كم أشفقُ عليك وأنت تُزيف انتصاراتك في الوقت الذي تتمرغُ فيه وسطَ خساراتِك ولا تدري.
إن فداحةَ الخسارة يا ابنةَ قلبي عندما يُفرطُ المرءُ بأهلِ فؤادهِ، بذلك يفقدُ عفةَ قلبهِ للأبد، أنت من بين الجميع تُدرك عمقَ ما أقوله، أولست من أخبرتني أن أفئدتنا تتعطلُ إن فقدت عفتها، لهذا كان أجدادنا يقبضونُ على أحبتهم كالقابضِ على الجمر خشيةَ الهوان.
لا تخف، أنا على يقينِ بأنك ستجدُ ما تختلقهُ لنفسكَ ثم تكررهُ آلاف المرات ثم تصدقهُ ثم تمضي بضمير متخم، وكأن شيئاً بيننا لم يكن.
ورغمَ أن ذاكرتي المعطوبة تؤكدُ وجودك كأمرٍ حتمي مستدلةً باحمرارِ الكدمات الحديثة، إلا أنني أجزمُ بأن كل الأدلةِ التي تدعمُ وجودك مفبركة.
أجل كنت كياناً يشغرُ حيزَ قلبي الفارغ كله، وكنت شيئاً يتنفسُ بداخلي، بل مضغةً تنمو في الجهة الورديةِ من رأسي تركلُ بطنَ ذاكرتي، كنت شيئاً يتحدثُ لغتي ويشربُ القهوةَ صباحاً في كوبٍ برتقالي مطابقٍ تماماً للذي تحمله يدي الآن، ويُطربُ للموسيقى ويدندنُ أغنيتي المفضلة لفيروز ويشاركني الحنين إلى أمي وتملؤ حروفهُ بريدَ هاتفي وحساباتي الإلكترونية.
أجل كنت أبجديةً تعجُ بها دفاتري، وقصيدة عذبة لا تنتهي، واسماً يتردد على أذن سجادتي، ويزدحم بهِ محركُ البحثِ خاصتي، وكلمة سر حاسوبي.
أجل كنت وجهاً يترتبُ كالفسيفساءِ على جدارِ العمر، ويظهرُ -من حيث لا أدري- في لَوحات الإعلانات، ويتراءى لي في المرآة ويطفو فجأة في كوبٍ بارد من الماء، فأرتوي. وأراهُ يشرقُ على جبينِ الشمس، ويطلعُ في خدِ البدر، ويثمرُ على أغصانِ الفاكهة، ويرتسم في قرص عسل.. آه لعمْري أنني على ألف وجهٍ من المارةِ كنت أراهُ.
أجل كان الأثير ينقلُ صوتك ورائحةَ عطرك، يا للهول، حتى إنه كان لك ظل في النهار يعانقُ ظلي ويصافحهُ بحرارة.
غير أنك لم تكن حقيقياً بالمرة، مُزيفاً كالأقمشةِ التي تذهبُ ألوانها منذُ أول غسلة، وأقلُ من سقفِ توقعاتي الشاهق، وإثم ظني الجميل بك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.