فلسطينيو الخارج طاقة هائلة.. تشيلي نموذجاً

يرفع الفلسطينيون رؤوسهم بهذه الإنجازات التي لم تنسهم أصولهم، ولم تلههم عن العمل من أجل بلدهم وحقوق شعبهم، ومع كل ما يحمله الفلسطينيون من شوق وعمل وجهد، ومع كل ما يملكونه من إمكانات وطاقات واستعداد للعمل حيثما هم، إلا أنهم يتعرضون كباقي فلسطينيي الخارج للإهمال والتهميش

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/14 الساعة 02:28 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/14 الساعة 02:28 بتوقيت غرينتش

قادتني رحلة عمل إلى تشيلي لتغطية أنشطة ثقافية وتراثية فلسطينية، ولمواكبة تحضيرات عقد مؤتمر فلسطينيي دول قارة أميركا اللاتينية.

رحلة عمل جديدة ومثيرة استوقفتني فيها الكثير من المحطات الخاصة بالفلسطيني المغترب في مناطق بعيدة، أهمها وجود هذه الطاقة الفلسطينية الهائلة المغيبة عن الحضور والتأثير، مع ما تملك من إمكانات وقدرات دونما استثمار أو استفادة رسمية منها، على الرغم من جهوزيتها واستعدادها لتقديم ما ينفع القضية الفلسطينية في الخارج، بأدوات ووسائل لا يجيدها فلسطينيو الداخل، مع انتظار طال وطال لمسؤول يبحث ويهتم ويجيد الاستثمار،

ففلسطينيو أميركا اللاتينية قوة لا يستهان بها، لم يذوبوا أو ينسوا قضيتهم، وحقهم بالعودة وتمسكهم بثوابتهم، ولم يقبلوا أن يكونوا عالة على أحد، وسعوا لحظة وصولهم لهذه البلاد لإثبات ذاتهم، بل والنجاح والتميز والإصرار على أن يكونوا رقماً صعباً دون أن يفرطوا بهويتهم وتراثهم وثقافتهم، ودون أن تنسيهم حياة الغربة الاضطرارية العودة والتمسك بحقوقهم الوطنية.

في تشيلي حيث يوجد نحو 350 إلى 400 ألف فلسطيني، حسب إحصائيات غير رسمية يتناقلها الفلسطينيون هناك، دون أن يتمكن أحد من إثبات هذه الأرقام مع تشكيك البعض بها، والقول بأنها أرقام مبالغ فيها، ودون أن يكون للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني أي دور في توثيق الأعداد الحقيقية للفلسطينيين في تشيلي بشكل خاص، وفلسطينيي أميركا اللاتينية بشكل عام، منذ وصولهم لهذه البلاد.

وعلى أي حال، فإن الجالية الفلسطينية في تشيلي تعد أكبر جالية فلسطينية في أميركا اللاتينية، التي يتوزع في دولها أكثر من 900 ألف فلسطيني قدموا إليها منتصف القرن الثامن عشر وبعد نكبة فلسطين.

في تشيلي وكذا دول أميركا اللاتينية، يعيش الجيل الخامس من الفلسطينيين، ولمجيئهم إلى هذه المنطقة في أقصى العالم قصص وحكايات يرويها الأبناء عن آبائهم وأجدادهم تنبئنا بالإصرار والتحدي الذي يسكن الفلسطيني في كل مكان وزمان، وحيثما ارتحل وحل، فمجرد وصوله إلى هذه البلاد عابراً آلاف الكيلومترات ومخترقاً البحار والقارات معجزة لم يجرؤ أو يقوَ عليها شعب من قبل،

بل لم يخطر ببال أحد أن يجازف ليصل لهذه البلاد البعيدة بقوارب ضعيفة تخترق أمواج البحار والمحيطات وترسو في نهاية سفر طويل في موانئ الأرجنتين، ومن هذه البقعة تبدأ حكاية الفلسطيني في رحلة غربة مع المجهول بدأها على ظهور البغال والحمير حاملاً معه ما تبقّى من متاعه وأوراقه خلال رحلة مضنية، تجاوز فيها جبال الأنديز؛ ليستقر به المقام في تشيلي ودول لا يعرف عن ثقافتها ولغتها وطبيعة الحياة فيها شيئاً.

يجري على ألسن التشيليين مثلٌ يلخص مكانة وقيمة وتأثير الفلسطيني عندهم: "ثلاثة أشياء لا غنى عنها في تشيلي السمك والكرة والفلسطيني"، مثل سمعته من أكثر من مسؤول وفي أكثر من مدينة تشيلية، والجميل شعور الفلسطينيين وهم يتداولون هذا المثل بالفخر دون أن يملوا من تكراره وانتهاز الفرص لترديده، فهو يعني مدى تأثيرهم الكبير في حياة التشيليين، والسيطرة والنفوذ اللذين يتمتعون بهما، وانتشارهم ووجودهم في كل مناحي الحياة هناك انتشاراً ليس عددياً فقط بل كيفياً ونوعياً، فمجموع التشيليين من أصول فلسطينية لا يتجاوز 5% من عدد السكان، ومعظمهم فلسطينيون مسيحيون جاءوا من بيت جالا وبيت لحم ورام الله، ومع ذلك وبعد وصولهم واستقرارهم هناك شقوا حياتهم وبنوا لأنفسهم مجداً لا ينكره أحد.

التجوال وسط العاصمة التشيلية يثير الغرابة لأي فلسطيني وعربي، فحي "باتروناتو" يعج بالتجار الفلسطينيين ومحالهم، وأينما توجهت ببصرك تجد صورة الكوفية الفلسطينية تلف الأقصى والقدس والمدن التاريخية كحيفا ويافا، مزينة بعبارات كتبت باللغة العربية تؤكد الحق الفلسطيني، وتدعو لعدم التفريط حتى العودة، ولا تستغرب من انتشار العلم الفلسطيني، تزين واجهات المطاعم الموسومة بأسماء المدن التاريخية، تقدم مأكولات تقليدية تلقى قبول المرتادين إليها، سواءً كانوا عرباً أو أجانب، كالشاورما والفلافل والخبز الساخن، وفي أماكن أخرى ستدهشك لائحة الطعام المقدمة إليك؛ حيث تتيح لك اختيار أطعمة بيتية بالنكهة الشعبية، كالملفوف والمحاشي بأنواعها وورق العنب والمقلوبة وغيرها من الأطعمة التراثية الفلسطينية التي تشعرك بأنك في فلسطين.

كنت أتابع شأن الفلسطينيين في تشيلي بحالة من الفخر والاعتزاز ممزوجة بالدهشة والاستغراب من هذا الفلسطيني الذي لم تَحُل النكبة وظروف الحياة القاسية في الغربة والبعد عن الأهل والوطن دون أن ينجح ويتفوق ويثبت ذاته في كل ميدان، ولذلك برزت أسماء الفلسطينيين المؤثرين والموهوبين والملهمين في تشيلي في السياسة وكرة القدم والتنس والفن والشعر والمال والأعمال وفي كل الميادين، البعض ممن التقيناهم تحدثوا عن سيطرة التشيليين من أصول فلسطينية على نحو 70% من اقتصاد تشيلي، ويستذكر الفلسطينيون هناك مثلاً "سلفادور سعيد"، الذي يعد واحداً من أثرى أثرياء تشيلي والقارة اللاتينية، يمتلك مشاريع ضخمة في معظم دول أميركا اللاتينية، وحيث تتنوع استثماراته في مجالات مختلفة،

ولاحقاً قام بشراء نادي "بلاستينو"، الذي يعتبر واحداً من أشهر وأفضل النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية في العاصمة التشيلية يرتاده الفلسطينيون والتشيليون، ويتوسط عاصمتهم سانتياغو، كما يبرز النواب التشيليون من أصول فلسطينية كأشهر قوة في البرلمان تجتهد إلى جانب مهامها الداخلية من أجل فلسطين، وتسخر إمكاناتها لدعم القضية الفلسطينية في المحافل الدولية، وتعمل على ملاحقة مجرمي الحرب الصهاينة ومحاكمتهم، يتقدم هؤلاء النواب النائب "فؤاد شاهين"، رئيس أكبر كتلة برلمانية، والنائب "فرانسيسكو شهوان"، مرشح الرئاسة القادم، وقد تولى الكثير من المناصب السياسية، أهمها نائب رئيس الجمهورية، وعضو مجلس الشيوخ التشيلي.

يرفع الفلسطينيون رؤوسهم بهذه الإنجازات التي لم تنسهم أصولهم، ولم تلههم عن العمل من أجل بلدهم وحقوق شعبهم، ومع كل ما يحمله الفلسطينيون من شوق وعمل وجهد، ومع كل ما يملكونه من إمكانات وطاقات واستعداد للعمل حيثما هم، إلا أنهم يتعرضون كباقي فلسطينيي الخارج للإهمال والتهميش والإقصاء والاستثناء عن تحمل مسؤولياتهم والنهوض بواقعهم، بما يعزز انتماءهم لأرضهم وشعبهم، وعلى الرغم من وجود السفارات الفلسطينية في دول أميركا اللاتينية والدعم اللامحدود من حكومات ورؤساء هذه الدول للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية،

وعلى الرغم من غياب التركيز والوفاء لهذه الدول في إعلامنا ولدى سياسيينا الذين قصروا في توعيتنا بجهدهم من أجلنا، على الرغم من كل ذلك، فإن استمرار عمل هذه الدول لفلسطين لم يتوقف، بل يستمر بإبداعات تستحق الثناء، فقبل أسابيع أطلقت مجموعة فلسطين في البرلمان التشيلي حملة دولية لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن وعد بلفور في ذكراه المئوية، ووافقت على إطلاق تجمع برلمانيي دول أميركا اللاتينية من أجل فلسطين، ودعت إلى ضرورة العمل من أجل رفع الحصار المفروض على قطاع غزة.

ومع هذا الإهمال الفلسطيني إعلامياً وسياسياً أخذ فلسطينيو تشيلي زمام المبادرة في التعريف بهم وبأدوارهم وقيمة حضورهم ووجودهم وتمسكهم بأرضهم واعتزازهم بفلسطينيتهم وانتمائهم لأرضهم المقدسة، من خلال العمل على إطلاق أول مؤتمر شعبي لفلسطينيي أميركا اللاتينية يعقد في تشيلي نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، يشكل عنواناً لهم، ومنبراً وطنياً مهماً يلفت الانتباه لهذه الجالية الكبيرة المغيبة والمهمشة.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد