كانت ليلة طويلة من بدايتها عندما دخلت أمي العناية المركزة وامتلأت الغرفة بالأقارب والأصدقاء الذين جاءوا لوداعها عندما سمعوا خبر دخولها المستشفى بعد معاناة مع مرضها شهراً كاملاً في الفراش، الدموع تتساقط والأيدي مرفوعة بالدعاء لها والاتصالات الواحد تلو الآخر للاطمئنان عليها.. فجأة طلبوا من الجميع مغادرة المكان والانتظار خارجاً؛ لأنها غرفة للعناية المركزة، وممنوع الوجود فيها لأكثر من شخص أو شخصين، لكنني لم أستطع المغادرة أنا وأختي سرير أمي، يبدو أنني كنت أشعر بأني أريد أن أروي قلبي بالنظر إليها، وأستغل كل دقيقة بل كل ثانية في ذلك لعل القلب يروى.
بقينا بجانبها، وكل واحدة منا تحاول أن تفعل شيئاً ما بين قراءة للقرآن ودعاء وتسبيح وصلاة، ونحن نشعر بأنها اللحظات الأخيرة، فقد كانت الأجهزة في كل مكان، وأمي غائبة عن الوعي، والنبضات تزداد وتنقص، وصوت الأجهزة يعلو وينخفض، كل ذلك كان يشعرنا بالخوف الشديد بقدوم تلك اللحظة الحاسمة التي سنفقد فيها حبيبة القلب ومهجة الروح.
اقترب الوقت من الفجر والتعب الشديد قد أنهكنا، فلم تغمض عيوننا طوال الليلة مع تعب نهار اليوم الذي قبله، ولكن فجأة أصابني ذهول، جعلت أنادي أختي، وكانت قد جلست في زاوية الغرفة تسند ظهرها قليلاً من شدة التعب: "تعالي تعالي بسرعة.. صحيت أمي صحيت أمي"، كانت الابتسامة العريضة تملأ وجه أمي، وعينها تنظر لأفق نكاد لا نشعر به، ويداها مفتوحتان بالدعاء وذكر لله -عز وجل- وتشير لنا بأن نستغل هذه الدقائق النفيسة بالدعاء معها.
بقيت تدعو ونحن ندعو معها وهي مبتسمة بشدة، وكأنها تقول لنا: لا تحزنوا فأنا سعيدة.. إلى أن حان وقت أذان الفجر وقد دخلت الغيبوبة مرة أخرى والأخيرة إلى رحمة الله الواسعة لتفارق روحها الطاهرة جسدها الطاهر.
بهذه الابتسامة منك يا أمي مسحت كل تعب هذه الليلة، وخففت معها آلام فراقك إلى موعد اللقاء الحقيقي الذي ليس بعده فراق.. في الجنة بإذن الله تعالى.
ختمتِ لقاءنا بك في الدنيا يا أمي الحبيبة، وأنت تذكرين الله -عز وجل- مبتسمة وكأني أراك تنظرين إلى مقعدك في الجنة، وتعطينا رسالة كما كنت تفعلين في السابق: اعملوا لهذه الساعة، تلك اللحظة العظيمة، وقدموا لأنفسكم.
تعلمت من ابتسامتك وأنت تموتين يا أمي أن أتعلق باسم الله الشكور الذي لا بد أن يشكر لك ما تفعله إذا كان خالصاً لوجهه ولو بعد حين.
في هذه اللحظة أراد الله -عز وجل- أن يعطينا درساً عملياً لن ننساه ما حيينا بأن نجد ونعمل بإخلاص لهذه الساعة.
هذه الخاتمة جعلت من الذكريات شريطاً يعود سريعاً ليتذكر ما كان..
لطالما كنت سباقة في فعل الخيرات، سباقة في أداء العبادات، سباقة في طلب العلم.. حتى آخر لحظة من حياتك تتعلمين القرآن وتعلمينه، فقد كنت تؤمنين بطلب العلم من المهد إلى اللحد، وتتمنين أن تقابلي ربك وأنت سالكة طريقاً في العلم يقربك منه عز وجل.
كم كنت تحاولين كلما أحضرت شيئاً مميزاً للمنزل أن تشكري الله -عز وجل- بأن تشتري مقابله شيئاً لبيت فقير لتتجاوزي الحمد باللسان إلى الشكر بالجوارح. أعمال كثيرة من خلالها كنت تعلميننا معرفة الله الحقيقية، وهي أنه لا بد أن يكون لنا نصيب من أسمائه وصفاته -سبحانه وتعالى- لنحظى بحبه ورضاه.
نعم طرق كثيرة في الخير منها أعلمه، ومنها لا أعلمه، صنعت هذه الابتسامة لك وأنت صابرة محتسبة المرض، لا يقع على لسانك سوى الحمد لله -عز وجل- والذكر وقراءة القرآن بصوتك الندي الجميل خصوصاً في كل صباح والاستزادة من طاعته حتى آخر لحظة من عمرك.
كلها ذكريات تأسر فؤادي لن يجف ربيعها برحيلك أمي، سأحاول أن أكون الولد الصالح الذي يدعو لك، وأعلم أولادي الدعاء لك؛ لكي لا ينقطع عملك كما علمنا حبيبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له".
سأحاول أن يؤنسني ذكراك الجميل لأحاول بثه حباً لمن حولي، لا يملكني أمام هذه الذكريات إلا أن أقف أمامها فخورة جداً كونك السعادة بكل معانيها، كونك الحب الذي لا ينضب، كونك العطاء الذي يحسب ثمن للتضحية، كونك أمي.. كونك أمي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.