بعد عام من اغتيال الإمام محمد البوطي بدمشق عام 2013م، كنت أرتشف الحليب الساخن غارقةً بين صفحات كتابه "الإنسان: مسيَّر أم مخيَّر؟". لم يسلبني النوم ليلتها شغفي بإكمال صفحات ذاك الكتاب، فأحياناً بفرط الحب نتمنى ألا تنتهي صفحات الولع، كما أن يحيا معنا كلَّ ثانية من العمر.
لا أعلم في صبيحة ذاك اليوم سبب إضافة ذاك السيد الوقر حينما قال: "ما فهمته منكِ، أنه أحياناً نتخذ قرارات مجحفة في حق قلوبنا من دون وعي عقل".. ربما كان يقصد بكلامه عن هفوة قلب عليل، فهو الآخر قد اشتد على قلبه انفصالُه عن قطعة روحه التي لم تكن بالأصل قطعته المفقودة، أو أنه لم يحارب من أجلها ربما، فبات منهزماً.. بعد هنيهة، تذكرت أمره وابتسمت له بشفقة لأكمل حديثي عن سر حياتنا الدنيا.
كان حديثي عن حرية الخالق في خلقه، وعن حرية الخلق في خُلقه.. وحينما أذكر الخُلُق، فإني عفوياً أشير إلى الإيمان.. أشير إلى قلبك.. فلا غرابة في ذلك وإمامنا ابن القيم يقول: "الإيمان هو الخُلق، فمن زاد عليك في الخُلق زاد عليك في الإيمان".
أي نعم، قد تسابقني للنوافل، وأجدك حريصاً على الرواتب.. وتخبرني بعدها بأنك للباقيات الصالحات محافظ -بارك الرحمن في جِدِّك واجتهادك الحركي سيدي- كلنا له متقنون، إلا أننا لا نتقن الإيمان، ولا أدري ما العيب فينا!
قد مرت 3 سنوات على هذا الحديث الغريب، ولم أجد الإجابة للأسف، لكني أيقنت بعدها أن قَدَري من إيماني، وقَدَر ذاك السيد من إيمانه، كان ينقصه الإيمان بأن تلك الروح منه لا محالة، وأنه مهما استخار ومهما آمن بأن الدعاء سلاح القدر، فنحن دائماً ما نُسيَّر في دروب أقدارنا.. وهذا ما لم يكن يؤمن به.
أجد بعض الناس يُغلّبون الحدس على توقعاتهم، ويحللون المواقف والكلمات حسبما تميل بهم عقولهم، ويرفعون شارة النصر إذا ما تحققت دراستهم العلمية الغبية.. دعونا من هذا كله وأيقظوا تلك المضغة المحجوبة في صدوركم.. اتركوها تظهر لكم، ستدهشكم حقاً؛ لأننا وببساطة نحن القدر.
أذكر ذاك النص القصير من الكتاب وهو يملأ استفهامات عقلي بنقط دقيقة على أن إرادة الله من إرادة الإنسان، فالأصل ألا يكون هناك صراع في الأمر؛ بل الأصوب أن ننام بالشهادة والقلب راضٍ مطمئن، وأن ندعو بالخير والقلب موقن بالإجابة، لكن الأهم أن نحب والقلب مؤمن.
حينما يحب المؤمن، فالله يرزقه نعمة البصيرة، يغدو الحجاب شفافاً، فيقرأ ما تيسر الله له أن يقرأه لكي لا يخطئ المسير. إن هناك يداً خفية تجرّه عن الحواشي مهما غفت عيناه، تهديه إلى ما له فيه الخير كله؛ بل تجعله خيراً لكل شر.. إن هذا المؤمن سره أنه استودع حياته لله الذي لا تضيع ودائعه، فصار يرى بنور الله، فعيون القلوب أبصر.
الله تعالى حينما قال: "ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، كان ذلك دليلاً قاطعاً على أننا غالباً ما نخطئ الاختيار؛ بل غالباً ما نخطئ الاختيار حينما لا نختار بمعية الله.. ما ضيرك برضا قلب مستسلم لعطايا الله المجيدة التي ترفعك إلى عالم المتوكلين غير المتواكلين.. فقولي هذا ليس إلا تذكِرة، فالذكرى تنفع المؤمنين.
– كن مؤمناً إذاً.
سلام
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.