الموت نقطة سوداء في حياتنا؛ باختلاف أعمارنا؛ يبقى انقباض القلب واحداً عندما نقف بالسيارة ليمر موكب جنازة، أو عندما نمر بجانب بيت ونرى عنده أفواج المعزين، أو عندما نسمع الإمام وهو يقول: "صلاة جنازة…". أما إذا كان الميت قريباً أو صديقاً، فالفاجعة تزلزل الفؤاد وتزعزع الخاطر.
هو اتصال هاتفي بعد منتصف الليل، ثم خبر يُربِك بيوت الأقارب واحداً تلو الآخر.. ويزيد من الوجع، مسافات أبعدت عنك منزل الميت، فتجدك ترتدي ما يأتي في طريقك دون أن تهتم، وقد تكون تلك من المرات القليلة التي قد تخرج ناسياً أخذ هاتفك معك… تفكر للحظات كيف ستقطع كل تلك المسافة وتصل قبل الدفن بلحظات: هل ستركب سيارتك وتقطع ساعات في الطريق السيَّار أو الوطني أو ستذهب للمحطة وترجو من طالب، أراد السفر ليرى أهله، أن يتبادل معك التذاكر ويؤجل سفره، فحالتك لا تسمح لك بالانتظار حتى الصباح؟
ثم تنطلق في طريقك للجنازة، تتمنى أن تتضاعف السرعة وتنطوي المسافة سريعاً، وبين تذبذبات الحافلة عند كل مطب واهتزازات جسمك بكاء، ستأخذك ذاكرتك بعيداً… ستحاول تذكُّر آخر حوار، ضحكة ومكالمة لك مع شخص أنت ذاهب لتشييعه، ستخطر لك لحظات قد عشتها برفقته… ستلوم نفسك لأنك لم تشد عليه وأنت تعانقه في آخر لقاء لكما؛ أنك لم تسرح في ملامحه لتحفظها في قلبك وعقلك معاً؛ وأنك لم تخبره بأنك تحبه وكم كان وجوده مهماً في حياتك.
ستصل أخيراً لذلك المنزل، ستحس بأنك تجردت من جسدك فما بقي منك إلا الروح التي ستتجول بأرجاء البيت. سيلمحك المُعَزون بنظرات حزن، ستؤثر فيهم ملامحك الصفراء، بعضهم سيبكي فور رؤيتك… ثم تدخل البيت، ستوقظك رائحة الطيب والبخور، نواح النساء واحمرار أعين رجال العائلة، لتدرك أخيراً أن ذلك الخبر حق وأن قطعة من قلبك ستنطفئ.
يسمح لك المغسِّل بعد انتهائه برؤية الميت، تدخل بخطوات متثاقلة… تقبِّل جبينه، تمتلئ عيناك بالدمع عندما ترى ملامحه الجامدة.. تحاول تحريكه، تناديه باسمه علَّه يستجيب، وتبكي دون توقف، تخبره بألا يتركك في هذه الدنيا بعده… سيسحبك البعض ليُتمِّموا التكفين.. سيحين وقت الفراق أخيراً، فراق الأجساد أما الأرواح فقد تفارقت قبل ذلك الاتصال. ستأخذ لهم غطاء، كنت تغطيه به عندما ينام في غرفة غير غرفته؛ ليضعوه على جثته إلى حين الدفن.
سيخرجه الرجال، ستكون معهم "إن كنت منهم"، أو ستراقبين ذهابه الذي لا عودة له "إن كنتِ امرأة". ستتوسل إليهم أن يتركوه؛ فهنا منزله ومكانه، وستشعر بأن قطعة منك انتُشلت ورافقته في الكفن. ستصلي صلاة الجنازة وستدعي له بالرحمة والمغفرة رغم وجود جزء من عقلك يرفض تصديق أنه قد مات فعلاً. سيُؤخد إلى المقبرة ويوضع في تلك الحفرة المظلمة وتعلو أصوات الذكر والدعاء.. سيرجع الجميع ويبقى هناك مع من انتقل من البشر إلى الدار الأخرى.
تعود لذلك البيت من دونه، ستتجول في أركانه وأنت تردد باختناق: "هنا كان يجلس، وهنا كان يصلي، هذا آخر كتاب قد بدأ قراءته…". سيتوافد الناس ليؤدوا واجب العزاء، ستتمعن في "جعلها الله آخر الأحزان"، فهل هناك حزن أكبر من هذا الذي تعايشه؟! ستذهب في اليوم التالي لتزور قبره، سترتعش يداك وأنت تمررها على تربته، ستقرأ ما تحفظه وأنت تبكي.
وفي حالتي، وبالأخص، عند موت جدي الذي لم يشبه موت أحد آخر قريب لي، سمعت الخبر فلم أصدقه ورفضت تصديقه حتى مع توالي الأيام، لم أصدق أكثر أن والديَّ رفضا أخذي إلى الجنازة، لم أرد سماع مبرراتهما بعدم قدرتي على التحمل وبأنني سأنهار. لم أرَ وجهه ولم أودعه كما يليق بمكانته في قلبي. وستمر سنة على وفاته وأنا على يقين بأنني لن أذهب لتلك المدينة إلا بصعوبة، وقد لا أدخل بيته مرة أخرى؛ فهو فقط ما كان يهمني في ذلك البيت وليست جدرانه المتكئ بعضُها على بعض.. سيظل وجهه محفوراً في الفؤاد وابتسامته التي تفرح داخلي في صوره التي بقيت بحوزتي..
هي هذه النقطة التي يسمّونها الموت، هي فراق على أمل اللقاء في جنة الخُلد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.