لأن للحب كما الحياة وجوهاً مختلفة من الصعب التعبير عنها في بضع كلمات سأمرّ بسرعة على بعضه؛ لعلي أرصد محطات مرَّ فيها نسيم الحب، معلناً عن أن في هذه الأرض ما يستحق الحياة.. شتان ما بين حب يبنينا وآخر يأتي ليجرف معه كل جميل فينا، شتان ما بين حب للكسور يجبر وآخر للأطراف يبتر، يتركنا بلا أيدٍ بعدما آمَنا بأن الحبيب هو تلك اليد القوية التي تنتشلنا، كلما ثقل حملنا، وانجرفنا مع التيار؛ لنكتشف وسط الإعصار أن لا يد غير يد الله تجبر بخاطرنا، وتصحبنا إلى اليابسة؛ حيث الكل يمضي إلى حال سبيله، وحدنا نستوعب دروساً دفعنا ثمنها غالياً.
هناك نوع من الحب يكون رائعاً وعميقاً، لكنه لم يخلق لنعيشه معاً، كلما اقتربنا احترقنا وانصهر الحنين فينا ليصبح ألماً، ألم استيعاب أن ليس كل من نحبهم نستطيع العيش معهم، ألم اكتشاف حقيقة وهم مقولة إن الحب يصنع المعجزات، لا يصنع غير الأطلال، ذكرى لوم وسؤال لا يفارقنا: ماذا لو ظللنا رائعين من بعيد؟ هذا الحب في غالب الأحيان لا نفهمه، نكون في منطقة ما بين الصداقة والوله، نجلس على حافة الطريق بعدما قطعنا أشواطاً بعيداً عن الصحبة، لكننا نكون نقاوم كي لا نقع، ننكر فكرة أن لنا في الآخر حقاً، وأن الهيام استوطن دواخلنا،
إنه صراع غريب ننهزم فيه كل يوم ونبدأه كل مرة أملاً في نهاية أخرى؛ لأننا عشنا مع الآخر راحة غريبة، ولم نصادف غيره قادراً على تضميد الجراح دون أن يحييها فينا، ذلك الشخص الذي على الرغم من الدمار رأى الأمل فينا وأدخلنا إلى ظلمة روحه إلى مقبرة الذكرى التي تجمع نعش أول خيبة من أقرب الناس، أول سقطة خلقت اعوجاجاً في روح ما استقامت يوماً وما انحنت للأيام، هذا حب لم يجئ للحياة وسط الناس، وجب أن ندفنه داخلنا، وأن نضع على تابوته وردة توليب لعلها تعبر عما عجز اللسان عن البوح به والقلب عيشه؛ لنمضي ونصادف حباً صريحاً لا يعرف المراوغة والاختباء، حباً يزورك في وضح النهار ولا يلبس ثوباً غير ثوب الشغف والهيام، لا ترضوا أبداً بنصف حب، فأنتم جئتم العالم كي تعيشوا حياة، وليس نصف حياة.
عن الحب الشائع.. أن تتعلق وتبقى معلقاً وحدك في حبال الهوى، لا أنت مدرك أرض الواقع فتنسى، ولا أنت تطير بأجنحة الحب، وحدك سجين الاحتمالات تؤلف أفلاماً هندية حول قصة حب لم تبدأ أصلاً؛ ليؤلف كها أحداثاً ونهايات، غالباً هذا الحب خاص بالنساء، يحببن المستحيل والمجهول والبعد وفكرة أن يغيرن الرجل، تدخل حياة زير نساء وتتوقع أنه بقدرة قادر يتحول إلى رجل يحلف الناس باستقامته وأخلاقه، إنها نشوة أن تحققي تغييراً، وأن تصنعي الفرق على الرغم من أني لا أظن أن تغيير رجل يصنع الفرق أصلاً وسط مجتمع يجب أن تعاد تربيته في ظل هيمنة فكرة محدودية الشرف لدى الفتاة أن الرجل لا يعيبه غير ماله.. لا.. تعيبه الرجولة إن هي نقصت أو حتى اضمحلت.. تعيبه فتوحاته النسائية التي يتفاخر به في مجالس السفهاء، تعيبه حاجة أمه له وهو لقوة أجساد البغال ينافس، تعيبه حبيبة راهنت بالعمر عليه فخرجت من العلاقة عجوزاً مفلسة لا تملك غير وهم أنه يوماً ما كانوا ولم يعودوا.
هذا حب ما كان يجب أن يولد يوماً، وإن ولد بلا أب فليمت رضيعاً لا تغذيه بحليب الأوهام الواهية، وأنه يوماً ستشرق الشمس لنا وحدنا، وأن ساعي البريد الذي لم يطرق يوماً بابنا سيحمل لنا رسالة حب من حبيب لا يعرف أنه حبيب؛ لذا لنتوقف عن تعذيب أرواحنا والرمي بها إلى التهلكة، ولنعرف أنه ليس من الضروري أن نموت كل يوم كي يحيا الحب، وأنه أحياناً يجب أن نوأده كي نعيش.
عن الحب البعيد، عن العذاب ودراما الحب من طرف واحد، هنالك التركيبة السرية، ترياق الحياة الذي يوجد ما إن يجتمع الحب والحظ في غفلة عن الزمن معلنين الاستثناء، لا تقبلوا يوماً بالقليل، لا تقبلوا إلا أن تكونوا الاستثناء في حياة أحدهم.. شعور غريب يصبح فيه كل شيء ذا معنى، حتى تفاصيل اليوم تبدو مشوقة كرواية أجاتا كريستي، إحساس أن الأشياء من حولك تضحك لك، وأنك إن سقطت يوجد من يحملك ويضمد جراحك دون لوم وعتاب؛ بل وحتى العتاب بالغرام أجمل، لحظة استيعاب العشق هي مرحلة توقف الزمن ودوران الأرض، اختفاء الناس من جانبك على الرغم من وجودهم،
استغناؤك عن كل شيء غير المحبوب، تكون له وحده بتلك الابتسامة الغبية التي لا تعرف مصدرها، تختفي كل المشاعر حتى تلك الحانقة الساخطة على حال وأحوال البلاد والعباد، كل شيء يختفي إلا منكما، ومن تيار يهز الأرواح والأبدان كلما التقت أعينكما وباحت بما عجز اللسان عنه، إنه ذلك الحب الذي يولد فينا على غفلة من دفاعاتنا العاطفية، الحب لا يطرق باب القلب ويستأذن الدخول، هو ذلك الضيف المفاجئ صاحب المكان الذي ما زلت تتساءل عن متى وكيف استوطنك فجأة واستحوذ على كل شيء، بين ليلة وضحاها تجده بداخلك يسكن الحشا والروح ويزرع الورود بكل ركن من أركان الفؤاد، في كل وريد نزف يوماً واليوم أصبح معافاً،
في كل زاوية مهجورة إلا من أطياف الماضي البعيد واليوم أصبح ينبض بالحياة، معه توقفت الأرض عن الدوران وبطلت كل قوانين العالم؛ كي لا تكون لك جاذبية إلا إليه، كي تشرق شمسك برسالته الصباحية ويمسي ليلك بنبرة صوته الساحر الذي يأخذك بعيداً حيث اللامكان واللازمان، فقط أنت إلى جانب المحبوب تنظر إلى عينين اختصرتا عالمك وحملتا سر الوجود، أتدري يصبح الوجود وكل ما سواه عدماً، هو الأمل وكل ما هو غيره ألم.. هو الدواء وبدونه كل شيء سقم.. إن وجدته فهنيئاً لك بهدية الحياة، وتذكر أن الحب رضيع يلزمه الكثير ليعيش في هذه الحياة؛ لأنه مع الزمن تنطفئ فتيلة الأشياء إن هي أهملت فتغدو وعوداً إلى الأبد، إلى أن نتغير ويسلك أحدنا طريقاً آخر.
إن الوعود الأبدية لا يأتي بعدها غير الندم، فلِمَ لا نحب بلا حساب للموت والفراق والخيانة.. فلنحسن الظن بالحب؛ لعله يكون عند حسن ظننا.
(يُتبَع)
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.