في الوقت الذي نكون فيه بأمسّ الحاجة إلى رسالة من أحدهم.. يُخبرنا فيها:
كم نحن مهمّون في حياته.. وأنّ يومه لا يساوي شيئاً من دوننا، أو أنّنا محور الكون بالنسبة له.
كانت غادة السّمان تنعم بالكثير من الرسائل، يبعثُ بها لها غسّان كنفاني، دونَ أن يكلّ أو يملّ رغم الصّدود الذي كانَ يتلقاه.
كلّ حرف من هذه الرسائل، وكلّ كلمة كانتْ تُخفي وراءها عاشقاً متيّماً، لا سبيلَ له في الوصال سوى قلمه وكتاباته، ومشاعره المسجّاة على ورق.
كانَ يبدو غسّان كنفاني، الطرفَ الأكثر حباً في علاقته بغادة السّمان، وكانتْ تبدو غادة نرجسيّة وباردة في التعامل معه، وكأنّها تتفاخر بأنّها أوقعتْ في شِباكها كاتباً كبيراً ومناضلاً بحجم غسّان كنفاني.
وإلاَّ لِمَ تجرؤ على نشر رسائله إليها بذريعة أنّها إرثٌ أدبيّ.. أو وثيقة يجب أن يخلّدها الأدب في سجلاته الكبيرة؟
المطلّع على كتاب: "رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السّمان"، يجدُ قلباً مكسوراً أرهقه الحبّ وأضناهُ الشّوق والحنين، وإنساناً ضعيفاً يستدعي النجدة قبل أن تحلّ به الكارثة، يقابلُه قلبٌ ازداد الصّقيعُ في داخله، حتى غدا يدعو إلى الاشمئزاز.
يعاتبها بحرقة قائلاً:
"عزيزتي غادة.. ما الذي حدث؟ تكتبينَ لكلّ الناس إلاّ لي.. ولكن انتبهي جيّداً لما تفعلين.. ذلك سيزيدني تعلّقاً بك..".
ويُكمل رسالته بإخبارها عن يومه، وكيفَ أنّه لم ينمْ ليلته السابقة بسبب مرضه وشجاره مع أخيه، والذي كانَ سببه غير المباشر.. إهمالها لرسائله وخوفه من أنّها اتخذتْ غسّاناً آخرَ كعوضٍ لها، بحسب تعبيره.
هل كانت غادة السّمان تستدرجُ غسّان ليكتبَ لها؟ أمْ أنّها كانتْ ترغبُ في الحصولِ على مادةٍ دسمة، تقدمها للتاريخ فيما بعد، بغرض التّباهي لا غير؟
التّباهي بأنّها أطاحت بمناضلٍ قومي كبير، يهابُه الصهاينة لقّوته وصلابته، ولتكشفَ عن غسّان الشّاعر والأديب والإنسان.
أمْ أنّها كانتْ تبادلُهُ الحبّ بالحبّ، إلا أن زواجه بأخرى وحياتَه العائليّة المستقرّة والخاصة جَعَلاها تتجنّبُ الدخول معه في علاقةٍ جديّة لا أملَ منها، فهي التي كتبتْ له يوماً:
"أيّها البعيدُ كذكرى طفولة.. أيّها القريبُ كأنفاسي وأفكاري.. أحبّك وأصرخُ بملءِ صوتي أحبّك..".
إلاّ أنّها تنفي علناً أن يكونَ غسّان حبيبها، وهذا ما يرجّح فرضيّة أنّه كانَ حباً من طرفٍ واحد، فهي التي قالت يوماً إنّ غسّان ليسَ "أحبَّ الرجالِ إلى قلبها.. إلا أنه أحد الأنقياء القلائل الذين عرفتهم".
وهو بدورهِ عبّرَ ذاتَ يوم عن وجعه من كلام الناس الذي يسمعه، والذي يدور في فلك أنّ علاقته بها ميؤوسٌ منها.. يقول لها بقلبٍ مكسور:
"غادة.. يقولونَ إنّ علاقتنا هي علاقة من طرف واحد، وإنّني ساقطٌ في الخيبة، قيلَ إنّني سأتعبُ ذاتَ يوم من لعقِ حذائك البعيد.. يُقال إنّك لا تكترثينَ بي، وإنّكِ حاولتِ أن تتخلّصي منّي، ولكنّني كنتُ مِلْحاحاً كالعَلَق.. يشفقونَ عليّ أمامي، ويسخرونَ مني ورائي، ويقرأونَ لي كما يقرأونَ نماذجَ للشاعر المجنون..".
لن أستطيع أن أُحصي هنا كلّ رسائل غسّان المُوجعة، أو أنْ أوردها كاملة، فهي كثيرة ومليئة بالألم، ولا تكفي صفحات للكتابة عنها، بل أدعو الجميع إلى قراءتها، لمعرفتي أنَّ عدداً كبيراً من القرّاء لا يعلمونَ عن تلكَ الرسائلِ شيئاً، ولأنّني من عشّاق الرسائل الورقيّة التي أؤمنُ أنّ بين كلماتِ أصحابها أرواحَهُم، وأنّ الفترة الزمنيّة بينَ كتابتهم لها، وبينَ وصولها إلينا، تساوي عمراً من الانتظار واللّهفة، أتحرّقُ شوقاً أن تخرُجَ علينا غادة لأسألها عن شعورها وهي تقرأ رسائل غسّان المكتوبةَ بخطّ يده، ينتابني الفضول في معرفة حالتها آنذاك، أكانتْ تقرأها بتأثر لما تحتويه من ألم يعتصرُ الفؤاد؟ أمْ أنّها كانتْ تضحك ساخرة لأنها جعلتْ منه عاشقاً ذليلاً أمامها؟ أمْ أنها كانتْ تشعرُ بالخيبة؛ لأنها في كلّ مرة تكون عاجزة عن الرد، وبالتالي تهديهِ برداً أشدَّ من برد "لندن" الذي كانتْ تشتكي منه؟
أم أنّها كانتْ تضعها جانباً لتقرأها فيما بعد وهي تحتسي فنجان قهوة، وكأنّها تقرأُ رسائلَ لشخصٍ لا يعنيها أمره أبداً.
إذا كانتْ غادة قد أرادتْ من نشر رسائل غسّان لها التشهيرَ به وإرضاء نرجسيّتها وغرورها، وتسليط الضوء عليها، فهي بذلك كشفتْ للكثير من القرّاء عن: غسّان كنفاني النبيل.. غسّان كنفاني الإنسان، الذي ورغم البرود والقسوة التي كانتْ تعاملُه به، فإنه دائماً ما كانَ يبرر لها ذلك بقوله: "إنّ شراستك كلّها إنّما هي لإخفاء قلبٍ هشّ.."، ثم يبدي خوفه من خسارتها مشبّهاً ضياعها من بين يديه كالكارثة:
"أنتِ في جلدي وأحسكِ مثلما أحسّ فلسطين.. ضياعُها كارثة بلا أي بديل..".
إذا كان الموساد قد استطاع أن ينالَ من جسد غسان، فقد استطاعت غادة أن تنالَ من قلبه ويموت مرتين، فالعاشق الذي يجيدُ الحب، يقتلُه البرود، وهو يدافعُ عن صورة الحبيب التي صنعها داخله، وكأنّما يقاتلُ بشراسة ليحافظَ عليها قبل أن تغدو أشلاء لجثةِ أصابها العَفن ولا سبيلَ في تحويلها إلى رماد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.