لا أدري متى بدأت حكايتي تماماً؟
لكن ما أذكره أنه في تلك الليالي الشتوية الباردة حين كان يغفو الجميع كنت أنفرد بالقلم والدفتر.. أسطر شيئاً عن يومي.. عن تفاصيلي الصغيرة.. عن ما أحب أن أخبر به أحداً لا أجده!
يوماً بعد يوم تراكمت أوراقي وصرنا رفقة أنا والقلم.. صار يفهمني ويؤمن بي ويخط وحي قلبي كما هو دون تحريف.. مرت السنوات وكثرت الحكايات وتعمقت الصداقة بيننا حتى جاء اليوم الذي عرف فيه الفراق إلينا سبيلاً!
وابتعدتُ عن الكتابة.. رغم أن قلبي لم يكف عن دندنة المعاني ولم يهدأ عقلي عن استنباط الأفكار وصياغة الكلمات في نسق أدبي.. لكن دون أن نجد من يسطرها!
كان الحنين إلى الكتابة يعصف بي كثيراً وكنت كلما تجولت في المكتبات تأسرني زاوية الدفاتر ذات الأوراق الصفراء والغلاف المبهج المنمق.. كنت لا أستطيع أن
أمنع نفسي عن اقتنائها علّني أجد بين دفتيها تذكرة العودة لوطن أحبه!
حاولت العودة كثيراً.. وكنت بالفعل أعود لكن سرعان ما أغيب مرة أخرى.. حتى استوقفت نفسي بسؤال: لماذا أكتب؟
رويداً رويداً صارت تتكشف لي دوافعي وبدأت أدقق فيما أقرأ فوجدت دوافع من يكتبون تنطق بها حروفهم!
وجدت أننا نكتب؛ لأن بعض المعاني واللحظات لا تكفيها حياة واحدة فنأبى إلا أن نوهبها حياة جديدة مع كل قارئ.
نكتب؛ لأن الكتابة حياة أخرى نعيشها من خلال كلماتنا في عالم صارت تفوح منه رائحة الموت وصرنا نبحث عن أحبابنا وأصدقائنا في كلماتهم التي تركوها تنبض بذكرياتهم وتُحيي أثرهم فينا!
نكتب؛ لنستكشف ذاتنا، فالحرف مرآة تساعدنا أن نصل إلى المجهول عنا فينا، وكتاباتنا حين نقرأها نجدها توضح لنا نقاط القوة ومساحات الضعف ومواسم الذبول.. كذلك تخبر بنسق أسلوبها عن شيء فينا، وتحكي بألفاظها لغة تفكيرنا وتسطر بين أحرفها تفاصيل نفسية خفية لن يقرأها سواك حين تعاود قراءة ما كتبت!
نكتب؛ لنؤرخ واقعنا ونوثّق أدق تفاصيله؛ لتصل قصتنا إلى جيل قادم دون تحريف أو تغيير للرواية، ودون إهمال لأدق التفاصيل.. تفاصيل الحياة وتفاصيل الموت.. تفاصيل الحب والحرب.. تفاصيل الألم والأمل.. تفاصيل الحقيقة التي تكالبت عليها كل وسائل التزييف!
نكتب؛ لنصل لإجابات على الأسئلة العالقة في أذهاننا ونرسو على شاطئ اليقين بعد تموجات الشك، ونساعد أعيننا أن ترى ما يدور بأذهاننا فتتضح الرؤى، وتهدأ الضوضاء، وتتناغم الأفكار المبعثرة!
نكتب؛ لننقل الإجابات التي وصلنا إليها لغيرنا فنساعده أن يُحيل علامات الاستفهام إلى معرفة، وأن يستكمل الصورة في ذهنه بوجهة نظر في الجانب الآخر.
نكتب؛ لأنه قد تزورنا فكرة مرة واحدة ثم ترحل عنا ونفقدها، فالكتابة قيد تستطيع به أن تمنع تلك الأفكار أن تغادرك؛ ذلك لأن هناك مواسم يزهر فيها عقلك كثيراً، ويغزل فيها الكثير من الأفكار وتجده رغماً عنك يشرد في تفاصيل الفكرة، ويتخيل كل صغيرة وكبيرة فيها؛ فنكتب لكي لا ندعها تُفلت!
نكتب؛ لأن في الكتابة متسعاً حين يضيق بنا هذا العالم، ولأن القلم لن يخذلنا، وإن خذلنا كل من حولنا؛ لأن الأوراق لن تمل من حكاياتنا الصغيرة وتفاصيلنا الكثيرة وتساؤلاتنا التي لا نجد لها جواباً.
نكتب؛ لنبعث برسائل في بريد الكلمات لإنسان في الجانب الآخر من العالم.. رسائل ربما تُنير عتمة وحدته، وتخبره أنك لست وحدك، فهناك من يكتب عنك، ويهتم لأمرك، ويتحدث بلسانك، ويحاول الإجابة على تساؤلاتك.
نكتب؛ لأن ذاكرة الحرف أوفى من ذاكرة الإنسان أحياناً، ولأن ما قد يضيع في زخم الحياة من تفاصيل صغيرة لن تجد أميناً عليها كحرف يحتفظ بها فتعود إليها بعد زمن فتعيشها وكأنك حديث عهد بها.
نكتب؛ لنتمرد على واقع حاصرنا من كل جانب فلم يعد هناك متنفس سوى أن نكسر هذا الحصار ببوق القلم، وأن نصرخ بالكلمات ذاك الصراخ المحتبس فينا، وأن نعطي لأنفسنا الحق المسلوب منا رغماً عنا في أوطان صارت سجّاناً على شعوبها!
نكتب؛ لأننا بالكتابة نحكي قصتنا، وندوّن تجربتنا الخاصة بنا في الحياة.. تجربتنا المبنية من الانتصارات الصغيرة والأحلام الكبيرة والتساؤلات الكثيرة.. تجربتنا التي تسرد قصص الحب ومغامرات السفر وأمسيات العائلة.. تحكي عنا حين حلّ بنا الربيع فأزهرنا ثم فارقنا وتغيرت بنا الفصول فتناغمنا مع الكون وتشبهنا به ودارت بنا أيام دُوَل.
تجربتنا التي لن يعيشها أحد بكل هذه التفاصيل سوانا.. تجربتنا الفردية القاصرة علينا نحن التي لن يحكيها عنا أحد!
اكتبوا لبعض هذه الأسباب، أو لها جميعاً أو لغيرها!
اكتبوا ومارسوا هذا الحق بكل تفاصيله، واستمتعوا وأنتم تسردون قصصكم الخاصة على طريقتكم.
الكتابة ليست حكراً على أولئك الذين يحسنون استخدام اللغة، أو الذين يجيدون التعبير والوصف، الكتابة صوتكم حين لا تستطيعون الحديث، وأنيسكم حين يعزّ الرفيق، وسبيلكم إلى أنفسكم حين يأخذكم التيه بعيداً عنها، الكتابة زكاة المعرفة التي نحصلها والخبرة التي نكتسبها في رحلة الحياة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.