الكتابة فن راقٍ من فنون الأدب يأخذك لمسافة ما، لمكان ما، لزمن ما.. تكتب، لنفسك قبل الغير.. تُنفّس عما يدور في فلكك. قد تكون في مزاج سيئ فتكتب ما يجول بخاطرك؛ ليزول ضيقك وحزنك، حتى يتلاشى إحساسك ويُفك ضغطك وانفعالك. وبعد وقت تتساءل: أأنا مَن كتب هذا؟! وقد تكون في مزاج لذيذ يُطيّرك فوق الجبال الشواهق، فتُبدع أكثر فيما كتبت.. أو لا هذا ولا ذاك، قد يخالجك المزاج السيئ، ويفتُر عنك الوحي، وتقلُّ فيك الحماسة، وينضب لديك المعين، فيحاربك الحرف، وترفسك المعلومة، وتشيح الكلمة بوجهها عنك حتى تلبسها من جديد ثوب العافية.
إنها الكتابة لمن ينفخ في جازها ويصارع في حلبتها، هي الأنيس والعشق والرفيق، هي الخلاص من الشعور بالضيق. هي إلهام من الله وساعة صمت وصفاء، وتجلٍّ تصفو فيها النفس، وتضيء بها البصيرة، كشعلة ملتهبة، يتدفق الكلام، وتنور وتبدع المعاني.. تحتار؛ ماذا تأخذ وماذا تَذَر! لغزارة الكلام واسترسال الكلمات.
ولكن، راحة البال وطمأنينة النفس هما قانون التجلي لاسترسال تلك الألفاظ. وأحياناً، المناخ ذاته والمكان ذاته، ولكن يكون العقل كالصحراء الشاسعة.. الواسعة.. الجرداء لا نبت فيها.. جدَّاء ولا ماء. وكذلك العقل، لا كلام ولا معنى لألفاظ، يستنبط ويشحذ من الصخر؛ ليبحث عن الكلمة ليرتوي، ولا يجد إلا دوائر سراب وخواء، وحروفاً عجمية تظهر وتختفي كالسراب.
إن خاطرة ما تكتبها تخفف عنك الإحساس بالوحدة وتحافظ على التوازن النفسي؛ لأنها كالدلو والبئر، تعطيك مكاناً آمناً لتفريغ المشاعر.. أي كأنك في زنزانة المكان تأتي الكتابة لتحرِّرك من سجن واقع أليم.. تأتي كالمنقذ، تطلق العنان لخيالك لتسبح من جديد.. في ثنايا أفكارك.. لإعادة اختراع واقع جديد من اختراعك.. من تصميمك.. من نموذجك.. من أسلوبك.. يصل بك لممر وشط أمان.
يقول مارك توين: "الكتابة لمن يريدون الوجود في مكان آخر". ما يحزُّ بالنفس في زمننا هذا، هو افتقار الجيل الطالع إلى الصبر.. إلى الفكر الخلاق.. وإلى الخيال.. إلى قلة القراءة والمطالعات.. إن لم يكن انعدامها، وهذا ما يقلص ويُضعف ويحدُّ من إثراء أدبنا المعاصر ورواياته ولغاته؛ لاعتمادهم على وسائل الإلكترونيات.
في الماضي، أعتقد أن الكاتب كان يحتار في انتقاء مواضيعه لأبطال رواياته؛ لقيود اجتماعية وتقنية. لكن في زمننا هذا، أصبح الكاتب يستشعر الكلام من أقرب مجالاته وأشيائه.. يسمو بروحه لينطلق خياله.. فالعالم أمامه، بكبسة زر هناك مئات المقالات، وألوف الموضوعات، وملايين المراجع والأدبيات، كل ما يحتاجه هو الذوق الرفيع والعين النافذة المتفرّسة الخلاقة؛ أي باختصارٍ راداراً أدبياً خارقاً، قادراً على استنباط واستشعار حلو الكلام.
أحببت قولاً للأديب والكاتب التركي "أورهان باموك" عندما سُئل: لماذا تكتب؟ "أكتب؛ لأن تلك رغبتي. أكتب؛ لأنني لا أقدر على القيام بشيء آخر غير الكتابة. أكتب؛ كي أشير أو أناقش بعض الآراء التي وردت في كتبي. أكتب؛ لأنني غاضب منكم جميعاً، من العالم كله. أكتب؛ لأنه يروق لي أن أنزوي في غرفتي اليوم كله. أكتب؛ لأنني لا أستطيع تحمّل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها، أكتب؛ حتى يعرف العالم أجمع أي حياة عشنا، وأي حياة نعيش. أكتب؛ لأنني أحب رائحة الورق والحبر. أكتب؛ لأنني أؤمن فوق ما أؤمن به، بالآداب وبفن الرواية، ومن ثم بالصحافة. أكتب؛ لأن الكتابة عادة وشغف".
حقاً، إن الكتابة تثلج الصدر، وتفرِّج عن الكرب، وتقوِّي النفس، وتُغني الفكر، وتحفظ الذاكرة من الهمش، كما أنها تملأ الوقت بالمفيد.. وتشترط كثرة القراءة وإلماماً بالثقافة. ولكنها أيضاً مرآة للأحداث، تخاطب كل صنوف المجتمع، هي مسؤولة: أدبية وتاريخية.. دينية وأخلاقية.. وازع ضمير وعاتق كلام.. وصدق حس وجمالي.. ويقظة حواس وحدس، وإدراك.
إنها وقفة للزمن، تأمُّلٌ للحاضر، وترتيب جديد للماضي، لمخرجات داتا جديدة، لأحصل على مفاتيح جديدة ألِج بها كل الأبواب؛ لأصل إلى سعة صالونات المعرفة.. وقاعات المعلومات، المستقبلية.. فقد استقل يوماً قطار الإبداع!
إن تشكيل التقدم وإثراء المجتمع لا يأتيان فقط من الذكريات المرتبطة بالمعارف والتجارب السابقة.. ولكن، من المسؤولية تجاه المستقبل أيضاً، فماضينا يُلهم مستقبلنا… ولكن.. لا بد للكاتب أولاً من تأبُّط ضمير حي وأخلاق قويمة، رشيدة؛ فالكلمة أمانة وأوسمة شرف، تُعلق على صدور الأدباء وغلاف الكتاب.. ومنهجية الأسلوب، هي الميدالية الذهبية أو الفضية أو البرونزية أو لا شيء من كل ذلك.
لا بد أن تكون الكتابة في العلم والأدب وحتى الدين؛ لتطوير أجيال أخلاقية كريمة، سليمة بلا عُقد أو مغلوطات، ورسماً لغلافات وأطر مسموح بها وليس كلمات بذيئة.. والتعمق في معلومات موثوقة وحقائق مستقبلية تنفع وتصلح بها قارئيها وتزيد من مخزون ثقافتهم، فأنا أكتب لأثري وأضيف.. وأقرأ لأفيد وأستفيد…
وليس لشعارات وأحزاب.. وحب ظهور.. وقناع بلا قناعات.. وليس لرياء.. وتجارة.. وتملّك فلوس وإثراء..
أتمنى أن أكون زائدة في ثقافة الأمة لا زائدة عليها.
وبعدُ، لم أعرف ماذا أكتب؟ وعن ماذا أكتب؟ فمن أهم شروط التجلي للغوص في الكتابة، ومقوماتها، استكانة وطمأنينة في النفس وراحة بالبال.. وأين تلك؟!
نحن في زمن الانحطاط الأخلاقي والفكري والطائفي.. نحن بزمن نقتات مصائب الدهر على مائدة الكبار، ومصير أجيالنا مربوط بسياسات.. ومزاجات.. وانقسامات.. وأجندات.
نحن بزمن نتلوّع شوقاً لراحة بال، وبحاجة لقوة خفية تصلح الحال من المحتال.. وأسوار وأبواب حدائقنا مشرعة لكل غريب يلوّح بعصا الفوضى والإزعاج، والإرهاب… فأين الراحة والأمن والاطمئنان… لأكتب ما يدور في البال؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.