"حين رحلتِ أدركت أنني لا أستحقك"، عبارة مليئة بالشجن، بين حروفها يفيض الوجل، كلماتها تفصح عن الألم، ودلالاتها تكاد لا تخلو من الحزن والأسف.. إنها أول عبارة ينعي بها الدكتور سلمان العودة وفاة زوجته هيا السياري، بعد حادث سير مروع على أثره انتقلت إلى دار البقاء.
إن المتأمل لهاته العبارة لَيستحضر معاني الود والإخاء، فقد لخص كلمات المحبة والاحترام في جملة واحدة، عذبة الألفاظ لكنها تفيض حسرة وألماً، غنية بالعبر لكنها تفتقد الأمل؛ أمل سرقه الممات بعد أن هبت رياح المنية بأغلى الأنام على حين غفلة دون إعلام.
لا يمكن لأحد أن يستشعر هول المصاب، إلا من عايش اللحظة وتصارعت دقات قلبه ألف مرة وهو يعيش وقع وفاة أقرب الناس إليه، فلا النحيب يعيدهم، ولا الدموع تجري جري الدم في الشريان لتوقظهم، ولا حتى الصراخ أو النداء يبث في أرواحهم الحياة، فيعودون ليمسكوا أيادينا ويمسحوا دموعنا؛ فلم يهُن عليهم يوماً أن نبيت حزانى..
من كانوا سنداً في وقت الشدة واللين رحلوا، من فرحوا لفرحنا وحزنوا لمصابنا اليوم غابوا، ومن آمنوا بأفكارنا وكانوا عوناً في مسار حياتنا الليلة غادروا، لتظل أرواحهم تسكننا وكأنهم معنا إلى حد الساعة ولم يخطفهم الموت بغتة، لا تزال أنفاسهم تعطر البيت، لا تزال كلماتهم ترن في الأذن، ولا يزال طيفهم يحرسنا ويقينا من قسوة الدنيا.
قدرٌ هو وابتلاء من لدن الرحمن، لشيخ لطالما عهدنا فيه الثبات؛ ثبات في المواقف أفعالاً وأقوالاً، فقد أنار القلوب وفطم العقول؛ بل وأبصرت النفوس في حضرته صفاءها وأيقنت أن الدنيا ما هي إلا قنطرة مرور؛ بل رحلة عبور إلى جنات فردوس وخلد حيث الهناء وعيد تحت عرش رب عظيم جليل.
راحلة عن الوجود، باقية في القلب إلى اليوم الموعود، هكذا المحبة تكون في أسمى صبغاتها، وأرقّ أشكالها، وأعذب تجلياتها.
إنها في ضيافة الرحمن، بعيدة عن النظر قريبة إلى الخاطر، تستحقها نعَم سيدي، فلا الفراق يميت الود ولا البعد يخلف الوعد ولا الممات بقادر على محو الذكرى ؛ ذكرى كُتبت بماء ورد ليجف الماء فيبقى العطر في الأرجاء، كالنسيم العليل يتطاير في السماء ومن عبقه تزهر ورود تتوج مرقدها، وتأتت ثراها.
عهدت الدكتور سلمان في برنامج "الحياة كلمة"، حيث يجعل من حواجز الحياة زهوراً تتفتح في وجه الإنسان، ومصائبها برداً وريحاناً؛ بل مجرد تجارب، من نهلها نستشف العبر لنرتقي ونصبح أفضل وأحسن مما كنا عليه من ذي قبل.. تابعته طويلاً لأستكشف أن للحياة معاني مختلفة، نسيج من ألم وأمل، فرحة ونكسة، ربح وخسارة، كلها تتضافر وتتكامل فيما بينها لتجتمع مكونة حياة تستحق أن تعاش برضاً ويقين، فما أصابنا ما كان ليخطئنا يوماً.
في أقسى الظروف وأصعبها، ظل بالإيمان شامخاً، وبالأمل متشبثاً، وقلبه باليقين متشبعاً، فاعتبر ما أصابه ابتلاء من لدن حكيم عظيم، له في خلقه ما يشاء ويريد.
يقول الداعية الدكتور عائض القرني: "اتصلت بأخي الدكتور سلمان العودة أعزيه، فوجدته صابراً محتسباً يسليني بكلامه".
إنه الموقن بالله حق يقينه، المحتسب أمره لربه الجليل، الواثق بأن مع العسر يسراً كثيراً، وبعد الشدة رخاء عظيم، كيف لا، وهو عندما سئل عن وفاة زوجته قال باكياً: "لست على موتها باكياً؛ الموت حق، أبكي على أنها من 33 عاماً ما قلت لها يميناً قالت شمالاً".
لم نعهد رحيل الطِّيب من ورده وجمال زهره وبهاء بستانه، ولم نلحظ يوماً ابتعاد الغصن عن ظله ولا تفرُّده عن جذع شجرته، إنها أقدار، فنسأل الله اللطف وعظيم الصبر..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.