لم أعد أعرفني، مذ ذهبت إلى مكانٍ لم أعرفه من قبل، ولم يعرفني أحدٌ فيه؛ إذ كان الخيار الثاني الهدف الرئيسي من ذهابي هناك، فأنا هاربة، مُطارَدة، محكومٌ عليَّ بالسجن 6 سنوات، في اتهاماتٍ ليست بجُرم فيما أعتقد.
حقيقةً، كان العام الذي تلا ذهابي هناك الأسوأ والأقسى في حياتي كلها، كنت حينها ابنة الـ19 عاماً، كنت صغيرة، مرتبطة بأصدقائي، والنشاطات الجامعية والخيرية التي كنت عضواً فاعلاً بها، ومحِبة لغرفتي الصغيرة، لكل ورقة مكتوب عليها هدف لي، أو صورة لمَثَل أعلى معلقة على جدرانها، لا شك، وأني كنت فتاة حالمة.
فمنذ ذلك اليوم، اضطررت إلى قطع كل سبل التواصل مع كل مَن عرفته؛ أصدقائي الذين كانوا بالعشرات، وكان لي حكاية جميلة مع كلٍ منهم؛ نشاطاتي التي لم آخذ إجازةً يوماً واحداً منها؛ وكذا اضطررت إلى وأد غضبي الذي أشعلته على أحباب فقدتهم أمام عينيَّ، يوم تركني قاتِلُهم أَخرج حيةً بعد أن أرهقه قتْلُهم؛ كما ودَّعت من يومها -لغاية الآن بعد مرور أكثر من 3 سنوات- غرفتي الصغيرة، حتى نسيت ما كتبت من أهداف وما علقت من صورٍ وأحلام على جدرانها.
بالتأكيد، لم أكن -وقبلي والداي- أريد أن أعود إلى تلك الزنزانة الموحشة، خاصةً مع زيادة وطأة الانتهاكات التي سمعت بها بعد خروجي منها، ولم أكن أريد رؤية تلك النظرات المخيفة المهدِّدة من جديد، ولم أكن أرغب في سماع التهديدات بأني لن أخرج من هذه الزنزانة إلا وأنا بسن الأربعين أو الخمسين مثلاً؛ عقاباً على عبارة مكتوبة بدفتري الخاص، وكذلك لم أرغب في سماع أني سألقى نصيبي من التعذيب والانتهاكات لولا "رحمة" رئيس المباحث وإشفاقه عليَّ.
وبالطبع، لم أكن أريد أن أنام على البلاط البارد المليء بأعقاب السجائر والحشرات، بجوار دورة المياه كريهة الرائحة والمنظر، دون أن أعلم؛ هل الوقت صباحاً أم مساءً، فيما يسترق أحدهم النظر عليَّ من شباكٍ الباب الحديدي الذي يفصلني عن كل ما أحب بهذا العالم، أو تدخل عليَّ سجينة جديدة لا أعلم ماذا ستفعل بي بعد وصية ذلك العسكري الذي أدخلها معي.
كما لم أرغب في أن يلقى بي مجدداً لأنام يوماً داخل حمام السجن؛ لأنهم احتاجوا الزنزانة لبعض المساجين الآخرين، الذين لا يكف بعضهم عن سباب بعض وتدخين السجائر بشراهة، فيما يكاد يُغمى عليَّ من فظاعة رائحته ورطوبته وعفنه، ولا أعلم هل تُقبل صلاتي في هذا المكان غير الطاهر وأنا جالسة أم لا.
ولأني لم أكن أرغب في تكرار تلك التجربة، كنت أستمع إلى نصائح الناصحين، فأذهب تارةً عالةً على أهل بيت أحد أقاربي أو صديقاتي المقربات دون أن أفارقه إلا بانتقالي لآخر، وتجربة أن تكون ضيفاً ثقيلاً على أحدهم -حتى وإن كنتَ تقدِّم قدر ما تستطيع من المساعدة- وحدها، كانت شاقةً؛ لأنك تدرك جيداً أن أهل هذا البيت مُكتفون ومضطرون إلى إظهار حياة أسرية مثالية لوجودك، وأنت أيضاً تكون مضطرٌ إلى فعل اللاشئ، وملتزم بميعاد استيقاظهم ونومهم وطعامهم وحديثهم؛ حتى لا تكون أكثر ثقلاً مما أنت عليه.
إلى أن آنَ أوان الابتعاد أكثر عن كل وجهٍ ألفته وأحببته، بانتقالي إلى بيتٍ جديدٍ اشتراه أبي خصيصاً لأختبئ به، في بلدٍ بعيدٍ عن بلدي، مع قرار تركي الجامعة، حتى بعد أن انتهت مدة فصلي منها، وإغلاقي كل حساباتي الشخصية على الشبكات الاجتماعية، وكذا هاتفي، فلا يعلم أحدٌ أين اختفيت، ولا أعلم شيئاً عن أي أحد.
فقط، في تلك الغرفة التي باتت صديقتي نحو السنة، مع ظلمتها التي أحببتها يوماً بعد يوم قضيته فيها، بفعل اللاشيء في أي وقتٍ أريده -أمتلك الكثير والكثير منه حرفياً- مع خياري في النوم على الأرض دون سرير -رغم برودة الطقس- استعداداً لتكرار تجربة السجن يوم يُعرف مكاني، وتعاطفاً مع آخرين اضطروا إليها ولم يستطيعوا الهرب.
في تلك الغرفة، كانت كل أيامي متشابهة، حتى إنني لا أزال غير مصدِّقة أني قضيت عاماً كاملاً بها، عدا بضعة أيام قليلة أتذكرها، أحدها حينما سمح لي أبي بأن أستخدم هاتفاً ورقماً جديدين وأطمئن أصدقائي، كانت سعادتي بالغة ذلك اليوم، شعور تلك الزهرة الذابلة لجفاف تربتها عندما تروى بالماء، أو يوم زارتني صديقةٌ عزيزةٌ تجمعني بها قرابة، وظلت معي بعض أيام -تواسيني رُبما- واللهفة الشديدة في معرفة كل جديد عن عالمي الذي حُرمت منه.
خلال هذا العام، لم أرً سوى أبي، أما أمي وأخي الصغير، والذي يكبرني مباشرةً فكان ذلك كل عدة أسابيع وربما شهور، جدتي وخالتي رأيتهما مرة وأخرى قبيل سفري، رغم أن أطول مدة لم أكن أراهما فيها لم تزد على أسبوع مطلقاً. أما أغلب أصدقائي، فلا أذكر آخر يوم رأيتهم فيه، فلم أودعهم؛ لأني لم أعلم اضطراري يوماً إلى هذا كله.
لكني رأيت كثيراً من القلق، والليالي التي لا نوم بها؛ لوجود حملات أمنية بالمنطقة، أو سماع "سارينة الشرطة" وقتاً طويلاً تحت البناء، أو اعتقال زملاء جدد بالقضية ذاتها، أو إحساس راود أبي أن ذلك الشاب الذي كان يُصلح جهاز اللابتوب رُبما رأى عليه ما يعرف بشخصيتي، أو أن فلاناً عرف إلى أي بلدٍ انتقلنا… والكثير الكثير من المشاعر التي لم أتخيل أني الفتاة الحالمة المتفائلة المبتسمة "المجنونة" أشعر بها يوماً؛ بل ومجتمعة أيضاً!
إذ كنت لا أزال صغيرةً على تجرع كل هذا دفعةً واحدة، لا دراسة، لا أصدقاء، لا أهل، لا نشاطات، لا خروج، لا عودة لبلدي وبيتي، لا شيء سوى رؤية ذلك الشباك يتسرب منه نور الصباح، ومراقبته حتى يُظلم، فقد كان ذلك النشاط يومياً تقريباً، على أمل أن أستيقظ ذات يوم وأجدني بغرفتي وسط أسرتي وبأمان!
أعلم وأقر أن هذا العام كان له فضل كبير على تطوُّري المهني والعملي، لكن الروح ذبُلت كثيراً، حتى إنني بعد أكثر من 3 أعوام من هذا اليوم البائس، ما زلت أعالجها من صدمتها وألمها.
كما أنني تغيرت كثيراً؛ إذ لم أعد تلك الفتاة الاجتماعية التي يحيط بها عشرات الأصدقاء والزملاء؛ بل كنت وأصبحت وحيدة تقريباً. أما الابتسامة التي جعلت البعض قد يراني بلهاء، فلم تعد مرسومة على ثغري، الأحلام مُحي كثير منها، البراءة تحولت مسؤولية فجأةً، والكثير مما يراود القلب ولا يُكتب ويُحكى!
حياة المطارَدة صعبة، وأصعب ما وجدته فيها أنني لم أعد أعرفني، حتى بعد أكثر من عامين على خروجي من مصر، لا أزال أسألني: من تكونين؟! وعندما تحيِّرني الإجابة، أسألني: كيف كنتي قبلاً؟! فربما أستطيع بذلك أن أُحددني وأفهمني، لكني أفشل في ذلك حتى اللحظة، فبالنسبة لي كانت المطاردة موت الحياة، وولادة أخرى لا تشبهها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.