كان لجدتي، البالغ عمرها 95 عاماً، حكمة ترددها دوماً؛ وهي "كوب من الشاي وبعض البسكويت، وانتهى الأمر".
من المثير للسخرية أن سوزي لينتون، وعلى مدار العقود التسعة التي عاشتها، لم تشرب سوى القهوة السوداء، إلا أن جميعنا كنا على علم بما تقصده؛ انتهِ مما تفعله واخرج من هنا.
وهو ما نفذّته في صباحات القهوة والاستعجال الذي كان بإمكانها التخلي عنه، إلا أنه كان في الحقيقة إشارة إلى نفاد الصبر وتحطم الأعصاب، والتذكير اليومي بجذورها اللاجئة.
فرت جدتي من ألمانيا النازية عام 1939، متجهة إلى بريطانيا، فتاة وحيدة تبلغ من العمر 18 عاماً، بلا مال ولا أهل.
صنع قرار الحكومة البريطانية باستقبال الفتيات الأجنبيات بتصاريح إعانة محلية، في الشهور التي سبقت نشوب الحرب، الفارق بين حياتها وموتها. كان القرار هو الفارق بين النسيج الفخم الذي حاكته خلال الثمانين عاماً التالية، بين عائلتها المكونة من الأبناء والأحفاد وأحفاد الأحفاد، والانتهاء من مهامها بأقصى سرعة ممكنة، والنهاية المأساوية التي لاقاها 6 ملايين آخرين.
في هذا الوقت ذاته من العام الماضي، كتبتُ هذا المقال للمرة الأولى بينما أمسك بيدها الدافئة المغضنة في سرير المستشفى. ومع هيمنة أزمة اللاجئين على الأخبار العالمية، أجد نفسي غارقة في قصة حياتها المميزة، المرسومة على وجهها، للمرة الأخيرة. يجعل قرار دونالد ترامب -الذي وقَّعه، للمفارقة المحزنة، في ذكرى الهولوكوست- بحظر المهاجرين القادمين من 7 دول ذات أغلبية مسلمة، هذا الوقت هو المناسب لنشرها: قصة الإنسانية في زمن اليأس؛ لمواجهة غيابها المرسوم بحبر الأمر التنفيذي للرئيس.
تخيل لو أن جدتي -المدعوة سوزي براون آنذاك، اليهودية الشابة القادمة من برلين- لم تُمنَح تلك الفرصة.
بينما جلست في سرير المستشفى الخاص بها، وهي تأخذ رشفات من الماء وتقضم من بسكويت الزبدة المفضل لديها والمصنوع منزلياً والذي يذكرها بخبز والدتها، تأملَت الطريقة التي ترى بها استقبال بريطانيا لها، كانت دائماً تخبر أياً ممن يسألها: "أنقذت بريطانيا حياتي".
فقدت جدتي، مثل آلاف الفارين من الحرب اليوم، أبسط حقوقها الإنسانية وشهدت مقتل الرجال الذين تعرفهم في الشارع. لم يُسمَح لها بالدراسة، كما لم يعد من المسموح لوالدها، الموظف الحكومي المرموق، بالاستمرار في العمل. واقتصرت إقامة أسرتهم الصغيرة، المكونة من 3 أفراد، على البقاء في إحدى الشقق أعلى بيت قديم، بينما يجتاحهم الشوق إلى نمط حياتهم وهم يرون حيهم الذي شهد طفولتها السعيدة وهو يُسوّى بالأرض في الخارج.
حين وصلت أوراقها من وزارة الداخلية البريطانية، استقلت أحد القطارات الأخيرة إلى خارج ألمانيا. قال أهلها إنهم سيلحقون بها، إلا أنهم -بالإضافة إلى صديقها (الرجل الذي ظنت أنها ستتزوجه)- لقوا حتفهم في الهولوكوست -لم يتأكد مصيرهم إلا بعد نهاية الحرب- بينما تنتقل هي من باب إلى باب في المساء لتسوُّل المال الذي يمكن أن يضمن سلامتهم. لا يمكن لتلك الصورة أن تغيب عني.
حصلت جدتي على وظيفة ممرضة وتزوجت كين، أحد الناجين من معسكر اعتقال داكاو والذي قاتل مع الجيش البريطاني، وأنجبا طفلاً واحداً، هو جون، والدي. حين تزوج أبي بأمي، حصلت جدتي أخيراً على ما فقدته في بلادها: عائلة. كان كين قد توفي بالفعل جراء السرطان.
بالنسبة لسوزي لينتون، كانت إحدى أعظم مباهج حياتها الطويلة الرائعة هي الجذور، كان الإحساس بالانتماء والعائلة من الأشياء التي تشعل حماستها، حتى في ساعاتها الأخيرة؛ إذ إنها تعرف أكثر من معظم الناس، قدر السرعة التي يُمكن أن تُنتزَع بها أسرتها.
اعتدنا، أنا وأخي، الضحك على الأشياء التي تفتخر بها: ذكرها في نشرة المجتمع أو بطاقة الكريسماس التي يرسلها البنك (كانت يهودية، أي إنها لا تحتفل به من الأصل)، أو حين يسأل الناس عنها وعن صحتها، أو حين يصنع الغرباء بعض الضجة بشأنها. بالإضافة إلى حفيدين صغيرين لابنها، لم يكن من شيء قادر على إثارة بهجتها مثلهما. ومثلما لم يكن بوسع والديها تخيُّل الاضطرابات والخوف الذي كان بانتظار ابنتهما، لم يكن بوسعها التخيل -وهي ترحل عن برلين- بأن هذه هي المعالم التي ستعيش لتراها.
كان الأمل الذي مده لها الغرباء -بدولة أخرى- في عام 1939، هو الأمل الذي عاشت به حياتها كاملة. الأمل الذي سمح لها بإكمال حياتها رغم أهوال الحرب والفقد اللذين بقيا في وجدانها عبر تلك الأعوام. والأمل الذي يُسلب من أولئك الذين يجري إخراجهم من طوابير الهجرة إلى الولايات المتحدة اليوم.
ليس بوسعي نسيان سؤال جدتي وهي تقضم بسكويت الزبدة الذي يذكّرها بطفولتها، بينما نستعيد الذكريات معاً في أثناء وجودها بالمستشفى: "لِمَ على الناس أن يعانوا قبل أن يموتوا؟"، توفيت جدتي بعدها بيوم.
انتهت تجربة جدتي في اللجوء بنهاية سعيدة غير متوقعة، إلا أنها حملت في طياتها معاناة أكبر من الألم الجسدي لمرض قصير. أعلم أن كل ما أرادته جدتي، لوقت طويل، هو أن تُغمض عينيها وتذهب للنوم، وبعد نحو قرن من العمر، الذي بدأ في قرن وانتهى في آخر، كان هذا ما حصلت عليه في موتها الهادئ، مثلما جرى منذ 78 عاماً حين تمكنت من الحياة. "كوب من الشاي وبعض البسكويت، وانتهى الأمر".
الكاتبة: ديبورا لينتون
صحفية وكاتبة ومحاضرة، مقرها مانشستر. تتسم مسيرتها المهنية الإخبارية بالتنوع، من مناطق الحرب (العراق وأفغانستان) وحتى ويستمنستر وأسبوع الموضة. كتبت عدة مقالات في العديد من الصحف؛ مثل: الغارديان والتليغراف والإندبندنت. تعمل حالياً محاضِرة بدوام جزئي في جامعة مانشستر متروبوليتان وهي أم لولدين.
– هذه التدوينة مترجمة عن النسخة البريطانية لـ"هافينغتون بوست". للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.