تتقاذفك أمواج الحياة وترمي باهتماماتك ذات اليمين وذات اليسار، ويكبر في عينيك بريق التطلع إلى العوالم المجهولة والأشياء المحجوبة، في دنيا الناس ودواخل تفكيرهم ومواطن نفسياتهم المتباينة الأصناف، المتعددة الوجوه.. يشيد بك شوق عارم لمعرفة ما يلتقطه سمعك ولا تكاد تراه.. وتستبين بعضاً من شكله الهيكلي وتكوينه العضوي.. وتكتفي بتجربته في الذاكرة، وتصوره في الخيال.. أنت الإنسان الناطق المتخيل القابع في ركن بيت بسيط الأثاث، تسبح في بحر لجي من التأمل الهادئ، في كون محكم البناء، راسخ القدم والبقاء.. تسيره قوة تتصف بالإبداع اللامتناهي والإتقان المنزه عن كل وصف وتصوير.
ترى البشر يغدون ويروحون وقد انشغل بعضهم بمتاع الدنيا البراق، وملذاتها المشعة بالإغراء، المفضية إلى كل أشكال الإغواء.. فاعتصم بحبلِها وأشاح بطرفه عما عداها، فهو دنيوي في تفكيره وانشغالاته، مادي في تفكيره وطباعه واهتماماته.. شهواني في سلوكه وتصرفاته.. أحكمت حضارة المادة والآلة قبضتها عليه وأصبح بذلك تابعاً لها، ورقماً يضاف إلى أعداد المستهلكين لها، المستظلين بشجرتها.
ومنهم صنف قنعَ بالقليل وعاش حياته مفكراً في قدرة المادة على تخريب البيوت وإثارة الفضائح وصنع المآسي التي تهدم صرح الاستقرار وتنمي أسباب الضياع، يقوى الشر ويشتد ساعده ويمسي متغلغلاً في تفكير الكثيرين وينعكس تغلغله على كل ما يصدر عنهم من أفعال وأقوال، فتراهم يكذبون، يلبسون أقنعة النفاق، يمارسون النميمة وقول الزور وينبشون الأعراض، وربما يقدمون على جرائم شنيعة في سبيل المادة، في سبيل نزوة عابرة أو لذة فانية.. قد يندم هذا البعض على فعلته بعد حين، فيثوب، ويشرع في تصحيح مساره في الحياة وتعديل وجهات قناعاته، وقد يظل غافلاً، مغمض العينين، مسلوب الضمير، وكأن الركض وراء المادة قد ركبه ركوباً، واستحوذ عليه استحواذاً لا فكاك منه ولا محيد عنه،
أعمته الدنيا وتزاحمت عليه بإغراءاتها ومفاتنها، فعطلت فيه كل موازين التفكير الرصين وأبعدته عن كل مواطن الوعي المثمر، وأصبح كل همه التسلح لدخول غمار المنافسة على المظاهر، منافسة غير متكافئة، فصاحب الرصيد الأعلى هو الفائز والأقل دخلاً هو الضعيف الخاسر، ورغم كل هذا وذاك ترى الناس يشتركون فيها ويتهافتون للفوز باللقب، لقب مادي الطراز، فارغ المحتوى.. سيشعر بالفخر والتميز وماذا بعد؟ هل ستعلو بذلك مراتبه في سجله الدنيوي؟
والأكثر بؤساً هو عندما تثور كرامة المساكين عندما يحرجون من ذوي الجيوب الثقيلة، فينفقون بذلك دخلهم القليل، ويبذخون ليعلو شأنهم، فلا يستطيعون مجابهة الأغنياء، فيغرقون في الديون، ولا يجنون شيئاً سوى الخوف من غد مجهول.
إن التنافس الحقيقي والعادل هو تنافس القدرات، هو تحفيز الإبداع، هو التنافس في العلم والتفاني في العمل، فكل الناس ميَّزهم سبحانه بقدرات ومواهب يتقنونها، من أجل هذا كان التنافس في القدرات هو الحكم الأكثر إنصافاً والأرفع مكانة، هو الذي قد يعلو بشأن أحدهم ويخفض الآخر بجدارة، هو الذي يبقى خالداً أبد الدهر ويضمن الثواب الأخروي؛ لأن الفرد يستخدم فيه ما وهب له بعقلانية واتزان ويشكر من أنعمه ليلاً نهاراً.. فيكون بذلك فاز بدنياه.
إن المال نعمة، من صاحب الشأن الأكبر، الذي يده فوق كل شيء، يهبه لمن يشاء من عباده، أن تنفقه في سبيله ولا تجعل منه هاجساً وهدفاً أمر معقول، لكن غير المعقول هو أن تتباهى به لتتكبر على سائر العباد، أن تتمادى في التفاخر والإسراف، أن تصبح المظاهر أعلى مطالبك، أن تغدو سطحي الاهتمام، ضحل التفكير، أن تختزل كل قيمتك في ساعة براقة، سيارة، بيت.. وماذا بعد؟ كل هذا قد يسلب منك في لحظة، فتزول قيمتك التي أقمتها على أشياء معرضة للزوال.. فتصير فراغاً!
فهنيئاً لكل مَن لم يدخل غمار منافسة المادة والبذخ في المظاهر السطحية، هنيئاً لكل من أعرض عن هذه الدنيا الفانية وانصرف عنها انصرافاً، لا يحفل بلذاتها ولا يطيل إليها النظر، تراه هادئ القلب، مطمئن الوجدان، ينعى على الناس تكالبهم على زخرف لن يدوم، ولهثهم خلف متاع عمره معلوم، وتماديهم في حب زمان متقلب ظلوم، مذكراً إياهم بساعة تخشع فيها الأبصار، وتخفق عندها الأفئدة ويعتري الوجوه ساعتها هلع ووجوم.. فسلام على الكل البسطاء والقنوعين في هذا الزمن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.