ماذا لو استيقظت يوماً، تحسست يمينك ويسارك.. تحت الوسادة وفوق الصندوق الذي يجاور السرير ولم تجد الهاتف، ثم تقدمت بخطوات متثاقلة نحو الداخل، ركن التلفاز فارغ والحاسوب مندثر.. البيت ليس كما عهدته.. الأثاث، الديكور.. كل شيء مختلف وأقل قيمة مما كان عليه.
ولجت الحمام وإذا به عادي جداً، مفتقر إلى أبسط الأشياء، فقط قطرات ماء في إناء لحاجتك اليوم، وإنارة ضعيفة طبيعية.
في المطبخ، الوضع لا يقل سوءاً عن باقي الأرجاء، لا فرن ولا مبرد ولا موقد للغاز ولا حتى أكلاً تحبه.. فارغ بالفعل، غبار هنا وهناك.. كسرة خبز يابس وقطرات زيت زيتون، هكذا فطورك اليوم.
ستتذمر قليلاً ثم ستحاول التأقلم والتعايش مع وضعك الجديد.. ستلفظ في صمت: لا بأس، سأتناول فطوري بأحد المقاهي في طريقي إلى العمل… ارتديت على عجل وهرولت خارجاً.. انتظر، لحظة: أين السيارة؟ ماذا ستفعل وقد أوشكت على التأخر؟ تاكسي؟ لا مال لديك وحياتك اليوم قد انقلبت رأساً على عقب.
ماذا لو حملت بيدك بطاقة الائتمان، وصرت تخيط الشوارع من هنا وهناك بحثاً عن الصراف الآلي أو إحدى الوكالات البنكية وإذا بها لا تحمل اسمك كما عهدت سابقاً..
سيختلجك الشعور بالوحدة وهلة، فقد قاربت على فقدان حياتك أو بالأحرى فقدانك.. ستقرر ألا تضيع الوقت أكثر، ستهم بالسير صوب العمل فيكفي الساعات التي أهدرت وأنت تتذمر.
تمر السيارات بجوارك؛ الوجوه تعرفها لكنك لا تذكر أسماءها؛ فلم تعر الآخرين اهتماماً قط، ولم تهمك إلا مسيرتك وعملك طيلة السنين التي مضت.
انتظر، مَن هناك؟ زملاؤك في العمل يتضاحكون، ستُلقي التحية عسى أن تجد من يشاركك همك… ستقصدهم بلهفة، وأخيراً ستكلم أحدهم في هذا اليوم المشؤوم…
– صباح الخير.
– صباح النور.. من أنت؟!
أي صدمة هاته! لم يعرفك أحد، ستسعى إلى تذكيرهم بنفسك.. كيف لهم ألا يتذكروك وأنت المسؤول عن أهم مصلحة هنا..
– المعذرة، المسؤول هو فلان، وهو شخص ذو قلب طيب، صديق الجميع…
– وأنا؟!
– لم نسمع باسمك بتاتاً..
كيف ذلك ووجودك في هذا المبنى يفوق العشر سنوات، خبرة ومنصب يجعلان كل من حولك يقف مندهشاً أمامك مبجِّلاً لك.. شخصيتك القوية وصرامتك تقولان عنك الكثير!
ماذا ستفعل؟ ستدخل..؟ طبعاً، فلن تضيع من نفسك ومن حياتك أبداً.. الأمن يناديك…
– توقَّف.. من أنت؟
ستعيد الكلام نفسه بحرقة أكثر، بسرعة أكبر، بلهفة أقوى… فألا يعرفوك معجزة.. لكن من دون جدوى،
ستلملم كرامتك وتخطو بعيداً، يبدو أنك قد ضعت من نفسك.
ماذا لو لجأت إلى أحبابك؟ أي أحباب لديك؛ فأنت عملي لدرجة الجنون، لا تقوى على تذكّر اسم واحد لصديق تملكه؟! صديق مَن، وأنت لا تعترف إلا بالمصالح وأن الشخص إن لم يكن ذا نفوذ لن ولم تعترف بوجوده أصلاً؟! لطالما آمنت بأن الصداقة تفاهة، وأن الأشخاص إن لم يضيفوا شيئاً إلى أجندة معارفك، بمكانتهم ومنصبهم، فلن ينفعوك أبداً، ومن ثم تتجاهل وجودهم.
– حاضر، أعترف.. وأهلي؟
أهلك -يا صديقي- منذ أن اخترت الاستقلال بنفسك، انقطعت علاقتك الروحية بهم، اطمئنانك عليهم لا يتعدى زيارتك لصفحاتهم على فيسبوك، وحبك لا يفوق أموالاً تحولها إلى حسابهم شهرياً.. عن أي أهل تتحدث وأنت الذي تكاد تنسى عتبة بيتهم في أي حي تتموقع؟!
ستتشتت للحظاتٍ بين الأخذ والرد، ثم ستقرر الذهاب إليهم، فمهما حصل تبقى العائلة الملاذ الأول والأخير… ستطرق الباب وستنادي: هاقد جئت، ستجلس بينهم كضيف غريب، رغم دمهم الذي يجري في عروقك.. ستحس بأنك غريب، فلن تضمهم بحب ولن تشد على أيديهم بدفء.. سترمي الحدود بوجوههم دون أن تشعر، فقط لأن روحك غريبة عنهم… فإن الروح كانت بعيدة، لن تتلامس القلوب وتدنو برفق.. لكنك -ورغم هذا- ستشعر بالأمان، ستحس بأن هناك من يحبك رغم أنك أنت… رغم عيوبك وأنانيتك، ستدرك أن هناك أشخاصاً يقاسمونك هواء الكرة الأرضية في بقعة ما، يخافون عليك ومستعدون في أي لحظة لحمايتك ومسح دموعك.
ستُجالسهم ساعات وساعات ثم تقرر الذهاب، ستخرج من هناك بجبل مدكوك على كتفيك، بمال وأكل ودعاء ويد لطيفة تربت عليك وتمسح رأسك بحب.
ستذهب؛ لأنك تريد أن تذهب، وستُجبر قلبك على الذهاب معك رغم رفضه الذهاب… ستذهب اليوم لكنك ستعود غداً؛ لأنك اكتشفت، وبعد كل هذه السنين، أن لا مالك ولا منصبك ولا ممتلكاتك تستطيع أن تعوضك عن لمة نقية وحب صافٍ بريء.
ستعود؛ لأنك علمت اليوم أنه حينما يتخلى عنك الجميع؛ بدءاً من هاتفك، وصولاً إلى ذاك المبنى، فلن يتخلى عنك الأهل والأحباب.
ستعود؛ لأنك أدركت أنك كنت ميتاً قبل هذا اليوم، واليوم أنت حي بحب أهلك.. ستعود فقط؛ لتستنشق الحياة بينهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.