"الحياة جميلة" أول جملة أقولها عن استيقاظي كل يوم من النوم، أفتح عينيَّ على يوم جديد بروح مرحة، وشهية مفتوحة، مستعدة لاستقبال الحياة كل صباح.
أبدأ يومي بنسائم القهوة اللذيذة التي تنعش رائحتها أنفي، ويفتح كافيينها عينيَّ، فتعطيني تلك الجرعة الإضافية من الحماس، أرتدي ملابسي، وأتعطر، وكلي أمل في أن ألقاه صدفة، وأنا أفتش عن سيارة الأجرة، وأنا أنتقد العشوائية في الطريق، وأنا عالقة وسط زحمة السير، وأنا أتفقد ساعتي في كل ثانية؛ لأستعجل السائق الذي يصرخ في وجه الكل؛ السائقين والمشاة، وفي بعض الأحيان الحيوانات أيضاً.
وسط كل هذا وذاك أبحث عنه، أبحث عنه هو الذي لطالما حلمت بلقائه، بتحيَّته ثم الجلوس إلى جانبه، وتبادل أطراف الحديث معه، فلكَم تخيَّلت ملامحه الجميلة وهو ينظر إليَّ، وعيناه اللوزيتان وهو يرمقني بتلك النظرة الساحرة التي تسلب الأنفاس، ولكَم حلمت بابتسامته الرائعة التي تأخذني من دنيا الواقع إلى دنيا الأحلام.
أحلام لطالما هربت من خلالها من واقع أسود، هناك في حلمي ورقة بيضاء عذراء تنتظرني لأرسم عليها ما أشاء، أخط عليها ما أريد، لا مكان للأسود في عالمي، هنا ألوان الطيف السبعة، عالم جميل من دون كذب ولا خداع؛ حيث السلم والفرح، هنا تتحقق الأمنيات، وهنا يجلس هو وكله شوق في لقائي، ينتظرني على أحرّ من الجمر؛ ليحكي لي عن مدى اشتياقه لي، يجلس في مكان لقائنا المعتاد، حديقة الحي؛ حيث التقيته صدفة ذات يوم، مكان ولادة حُبنا الأبدي.
جلس على الكرسي وفي يده وردة، وفي عينيه بريق يشع حباً، أراقبه من بعيد وكلّي وَلَهٌ، بخطوات ثابتة أدنو إليه، ودقات قلبي تتسارع، رفع عينيه نحوي؛ لترتفع حرارتي وتحمَّر وجنتاي، ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتَيه فلقد لاحظ التوتر الظاهر عليَّ، تقدمت وجلست إلى جانبه، زاد توتري، واتسعت ابتسامته، فما كان منّي إلا أن أنزل بنظري إلى الأسفل، خجلي حال دون أن أنظر إليه مباشرة، وأنا التي أتوق إلى هذا منذ زمن، مدَّ يده إليَّ وهو يحمل الوردة الحمراء، حملها إليَّ ورفع رأسي في اتجاهه وابتسم، عيناي تسمَّرتا على نظراته الساحرة، لم أعُد أحس بشيء كأنني تحت تأثير تعويذة قوية،
تعويذة حُبه الطاهر، من دون شعور، وكأن إنسانة ثانية هي التي تتحرك، أخذت الوردة من يدَيه، وشكرتُه، لكني أنا ما زلت جامدة مكاني، حتى أنفاسي تشنجت، فأنا لا أقوى على الشهيق أو الزفير، أمامه أصبح خائرة القوى.
فجأة أسمع حروفاً تخرج من فمه كموسيقى، لم أستوعب ما قاله، حروفاً بدت مألوفة، لكن وقعها على مسامعي كان أقوى من أن أتحمله، جلس أمامي وهو ينتظر الرد، وكيف لي أن أردَّ وأنا لم أسمع؟
حاولت تجميع ما التقطته بصعوبة بالغة (ا ش ت ق ت ا ل ي ك) اشتياق؟ اشتاق لمَن هل اشتاق لي؟
دقات قلبي تتسارع، أحس كأنني فجأة أطير حاضرة أمامه بجسدي وغائبة بعقلي، كيف لي أن أردَّ وأنا من شدة المفاجأة نسيت كيف تنطق الحروف وكيف ألصق الكلمات لأصوغ جملة، يسألني: حبيبتي هل تسمعينني؟
ماذا قال.. حبيبتي؟ آهِ لكَم كنت أتوق لأسمع هذه الكلمة، أحسست بالفرحة وهي تمزق أوصالي، طاقة رهيبة تتفجر من أعماقي تتسلل من الأسفل إلى الأعلى، لتخرج من فمي كلمات.
أصوات السيارات والضجيج تتعالى، آه لكم أكره هذا التلوث السمعي! نظرت أمامي وإذا به سائق سيارة الأجرة وهو يقول هل ستنزلين هنا؟
تلاشى كل شيء، حديقة الحي تبدَّلت بالشارع المكتظ وأصوات الطبيعة أضحت ضجيج سيارات، وحبيبي صار سائق السيارة.. وبهذا أعود إلى الواقع، نزلت من سيارة الأجرة وأنا أجري، فأنا متأخرة كالعادة عن العمل، بخطوات كبيرة أقفز بين الأرصفة، وبيدي النقود التي أعادها إليَّ سائق سيارة الأجرة، أسير بين السيارات المركونة أمام مبنى العمل، لفتت نظري ورقة عليها إشهار لمحل تجاري أردت زيارته مرات عدة أخذتها، دخلت المبنى وأنا أتصفح الإشهار، ارتطمت بشخص ما، سقطت الورقة وانتشرت النقود على الأرض، وكيف لي ألا أقوم بمثل هذا التصرف الأحمق؟! فأنا وكما أقول دائماً عاثرة الحظ.
أنا آسف دعيني أساعدك -صوت مألوف خاطبني- أجبتُه: لا عليك، لا أحتاج مساعدة، أجابني: لا أنا مُصرّ، مد يديه ليجمع أغراضي ثم ليساعدني على الوقوف، رفعت رأسي تجاهه، وقلت مَن يا ترى هذا الفارس الذي أنقذني، وأنا أضحك بكل سخرية كنت واثقة من أنه أحد زملائي بالعمل.
ردَّ وهو يبتسم: أنا فارسك، ما هذا؟ اعتذر من هذا؟ أريد أن أقول من أنت؟ أجابني: فارسك.
إنه هو فارسي، حبيبي، هل أحلم مجدداً قلت.. ردَّ وهو يضحك: هل تمشين أثناء النوم؟
ماذا؟ أنا في مبنى العمل، هنا يقف أمامي سي أحمد، حارس المبنى، وهؤلاء الموظفون الذين يعملون بشركة الاتصالات بالطابق الثاني.
هاجر ماذا تفعلين هنا؟ (صوت آخر أكثر ألفة من الذي قبله) إنها هند زميلتي هذه المرة، هاجر ما بكِ؟
أجبتها هند هل أنت بحلمي أم أنا بحلمك أم أنا أحلم؟
ضحكت بصوت عالٍ وقالت: هاجر ألم تشربي قهوتك الصباحية بعد؟ أجبتها رجاء جاوبيني أين أنا؟
ردّت وقد بدت على وجهها ملامح القلق، أنت بمبنى العمل أمام المصعد.
ضحكت وقلت: إذاً أنا لا أحلم، أخذت بيدي، وقالت: هيَّا لنصعد وسأجيبك على كل أسئلتك الغريبة هذا اليوم.
هاجر.. قلت: نعم، إذاً هذا اسمك، كانت كلمات قالها حبيبي، ثم أغلق باب المصعد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.