أين كانت المرأة عندما كُتب التاريخ؟

وعند وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- رصد العلماء عدد أعلام الصفوة من الصحابة، فكانت نسبة النساء فيهم 12.5%، وهي أعلى نسبة في حركات التحرير في التاريخ، وقد احتوت كتب التراجم التاريخية حتى القرن العاشر الهجري على مجلد أخير أو فهرس في كل منها يختص بتراجم النساء

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/24 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/24 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

إن استعراضاً سريعاً لمناهج التاريخ الحديثة في عالمنا العربي وتتبُّع قصص النساء المسلمات الرائدات في كل المجالات فيها كفيلٌ بإحداث انطباع عام في أذهان الطلبة بأن المرأة لم يكن لها نصيب من تاريخ الحضارة الإسلامية.

وليس ذلك لنقص النماذج أو ندرتها، وإنما لقصور في قلم كاتب التاريخ في العصور المتأخرة، الذي عرّفنا بابن سينا، ولم يعرّفنا بفاطمة الفهري صاحبة أول جامعة في التاريخ، وعرّفنا بالخوارزمي ولم يعرّفنا بفاطمة المجريطية التي صححت جداول الخوارزمي، وعرّفنا بالمحدِّث ابن حجر العسقلاني ولم يعرفنا بـ"أُنسٍ" زوجة ابن حجر إحدى أشهر محدِّثات عصرها والمرأة الوحيدة التي كانت لها حلقة علم في مسجد عمرو بن العاص، وعرّفنا كذلك بالكاتب الخطّاط عبد الحميد الكاتب ولم يعرّفنا بفاطمة بنت الأقرع إحدى أشهر خطاطات وكاتبات عصرها.

إن التأريخ لحقبة تاريخية ما على الرغم من كونه موثقاً لأحداث حصلت فإنه يلعب دوراً في بناء المستقبل لما بعده؛ نظراً لكون الحراك البشري يتسم بالتراكمية وتقديس "الفعل التاريخي"، بمعنى أن المخيال الجمعي لتجمع بشري ما يلعب دوراً في آلية تفكيره وفي محاولة إسقاطه على أرض الواقع، فلو زادت المعرفة المجتمعية بدور المرأة في الحضارة الإسلامية في قرونه الأولى لقلَّ تأثير المخيال الجمعي القريب ولحل محله تأثير تاريخ عصر الرسالة الأول، ولساعد ذلك في تشكّل صورة ذهنية مختلفة للمرأة المسلمة.

وبنظرة سريعة وخاطفة إلى ما كانت عليه المرأة في عصر النبوة والعصور الإسلامية الأولى تقول الباحثة والمستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: "ظلت المرأة في الإسلام تحتل مكانة أعلى وأرفع مما احتلته في الجاهلية وسار الركب، وشاهد الناس سيدات يدرسن القانون، والشرع، ويلقين المحاضرات في المساجد، ويفسّرن أحكام الدين، فكانت السيدة تُنهي دراستها على يد كبار العلماء، ثم تنال منهم تصريحاً لتدرس هي بنفسها ما تعلمته فتصبح أستاذة وشيخة، كما لمعت من بينهن أديبات وشاعرات، والناس لا تُبدي في ذلك غضاضة أو خروجاً عن التقاليد".

وعند وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- رصد العلماء عدد أعلام الصفوة من الصحابة، فكانت نسبة النساء فيهم 12.5%، وهي أعلى نسبة في حركات التحرير في التاريخ، وقد احتوت كتب التراجم التاريخية حتى القرن العاشر الهجري على مجلد أخير أو فهرس في كل منها يختص بتراجم النساء، ومن هذه التراجم كتاب الطبقات الكبرى لمحمد بن سعد الزهري، المتوفى عام 230هـ،

أفرد فيه الجزء العاشر للحديث عن أعلام النساء في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتاب أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير، وكتاب نفح الطيب للمقري التلمساني، والصلة في تاريخ أئمة الأندلس لابن بشكوال، الذي تحدث فيه عن أعلام الأندلس وفقهائها وأدبائها ذكوراً وإناثاً، وغيرها الكثير من التراجم والكتب التي احتوت على معلومات قيّمة حول مشاركة المرأة في الحياة العامة وإبداعها في شتى المجالات.

وبعد انقطاع في كتب التراجم وتناول أبرز النساء في تاريخ الحضارة الإسلامية منذ القرن العاشر حتى القرن الرابع عشر، برزت مجموعة جديدة من التراجم التي جمعت بين طياتها أعداداً وفيرة من النساء اللائي كانت لهن بصمة في حياتهن العامة والخاصة، ومن هذه التراجم وأشهرها كتاب أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام لعمر رضا كحالة، والدر المنثور في طبقات ربات الخدور لزينب علي العاملي،

إضافة إلى كتاب المؤلِّفات من النساء ومؤلفاتهن في التاريخ الإسلامي لمحمد خير رمضان يوسف، ودراسة قيّمة بعنوان أوقاف النساء لزينب أبو المجد، ودراسة أخرى لها بعنوان لُـمَع الإشارات في طبقات النساء الفقيهات، غير أن هذه التراجم وتلك الدراسات في مجملها تجميع لما ورد ذكرهن من النساء في القرون العشرة الأولى، وقلّما نجد فيها نساء من العصور المتأخرة.

وقد يكون خلف كثرة ورود النساء في كتب التراجم الأولى وقلة وُرودهن في كتب التاريخ في القرون الأربعة الأخيرة مجموعة من العوامل والأسباب، لعل أهمها الانحسار الفعلي لدور المرأة في حيز الحياة العامة.

وتعتقد الباحثة عائشة بيولي أن التأثير الأوروبي على بلاد المسلمين منذ نهاية القرن التاسع الهجري، أي مع نهاية الدولة المملوكية، إضافة إلى الثقافة الهندوسية بعد فتح بلاد الهند وتغلغل المسلمين فيها، قد لعب دوراً هاماً في تقهقر وضع المرأة المسلمة، كما أن فترات الاحتلال المتعاقبة على الدولة الإسلامية من قِبل الصليبيين تارة والمغول تارة أخرى قد خلقت جواً من عدم الأمان الذي انعكس بدوره أول ما انعكس على المرأة.

لقد أدى تراجع دور المرأة في المشاركة في المجال العام إلى تراجع في التعريف بدورها فيما مضى، فكان التأثُّر والتأثير بين الفعلَين -فعل التراجع وفعل التعريف- متبادلاً، وبات حجب المرأة هو الطبيعي، وبات إبراز دورها ضرباً من مجاراة المؤسسات الحقوقية والنسائية الغربية دون الالتفات إلى أصل الأمر وبدايته، وقد صار انسحاب المرأة من الحياة العامة، كما يفسره الأستاذ خالد العسري، حجاباً عن قراءة النص القرآني والسيرة النبوية في شأنها.

هل سيتغير شيء إذا ما أُبرز دور المرأة في الحضارة الإسلامية في كتب التاريخ؟
لن يكون إعادة إبراز دور المرأة في كتب التاريخ والمناهج المدرسية هو العامل الوحيد الذي سيدفع بعجلة تقدم دور المرأة في الحياة العامة، لكنه بكل تأكيد سيتضافر مع جهود أخرى لا بد للمرأة نفسها أن تبذلها لتغيير الصورة النمطية عن قدراتها ومجالات تفاعلها مع المجتمع المحيط.

إن تقدم المرأة نحو مكانها الطبيعي في مجتمعها رهين بالتوازن بين التأصيل النظري – الشرعي السليم، والتطبيق الفعلي الذي سيعتمد على جَلَد المرأة ومضاعفة جهودها لوضع القطار على السكة الصحيحة بعد انحرافه قروناً تطاول عليها العهد، وإذا ما دعم ذلك كله بخلفية تاريخية حقيقية ومناسبة، فإن الجهود ستكون موجهة بانتظام ونسق منطقيين، وذلك سيكون عسيراً في بداياته بلا شك، لكنه ممكن.. بل ممكن جداً.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد