عندما يتعلق الأمر بالتعاليم التي تتنافى مع مكارم الأخلاق، تقف الدولة العلمانية على الحياد، وتجد ألف مبرر لحيادها، ولكن عندما يتعلق الأمر بالأخلاق الحميدة نجد نفس الدولة تتخلى عن ذلك الحياد، وتجد ألف مبرر آخر لتتنصل منه، ولنأخذ قضية شائعة مثالاً على ذلك، وهي ما تطلق عليه اسم العلاقات غير الشرعية، تقول لك: رجل بالغ عاقل رشيد، والمرأة مثله، اتفق كل منهما على استغلال جسد الآخر، أنا ليس لي من الأمر شيء، هما أحرار ما لم يكُن هناك ضرر على المجتمع.
لكن عندما يتعلق الأمر بالأخلاق الكريمة أو حتى ركن من أركان الإسلام، تجد مبررات كثيرة لعدم الحياد، ولنأخذ الصيام مثالاً على ذلك، صرّح الرئيس التونسي بورقيبة في خطاب 5 فبراير/شباط 1960: "هذا ما يتعيّن عليكم إدراكه حقّ الإدراك دون أيّ التباس قد يركبه خصومنا الكثيرون مطيّة للتهجّم علينا وحملنا محمل الكفر والعياذ بالله، إني لا أدعو الأمّة إلى ترك الصيام"، وانتقل بعدها الرئيس للفعل وشرب كأس عصير في صباح رمضان أمام الشعب، وكان تبريره حاضراً، فقال: تونس البلاد الإسلامية تعاني درجة من الانحطاط تجلب لها العار في نظر العالم، ولا سبيل لأن ترفع هذه المعرّة عن جبينها إلا بالعمل الدائب المتواصل، وليت شعري ما علاقة الصيام بالتخلف؟!
شرعت السلطات المحلية في المغرب نهاية الأسبوع المنصرم في توجيه تعليمات لكل مَن يتاجر أو يعمل في مجال خياطة النقاب، قاضية بالكفّ عن إنجازه أو عرضه للبيع، ومنحت فرصة 48 ساعة للتخلص منه، عبر وثائق تم توزيعها، وهذه الوثائق رسمية باعتبار أنها صادرة عن "الباشا"، والباشوية هي السلطة المحلية في إطار تقسيم تراتبي، تأتي بعد الإقليم والجهة، وعلى رأسه وزارة الداخلية، وهذا القرار جاء تمهيداً لتجريم النقاب وإلا ما معنى هذا القرار، غير التضييق على المنتقبات الآن والتقليل من الجدد؟!
وكان حرياً بها أن تصدر قانوناً يمنع بيع الخمور، بدلاً من حظر بيع النقاب، وقانوناً آخر يجرم الفضائح التي تخدش الحياء والتي لا تتوقف القناة الثانية عن بثها؛ لأنها مؤسسة تنتمي لدولة تقول عن نفسها إنها من أتباع الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية، والإمام مالك يقول عن النقاب إنه شعيرة إسلامية، فيما يقول عن الخمر إنه من محرمات الإسلام، سؤال هنا: أين ذهب المذهب المالكي؟ سؤال آخر: أليس هناك تناقض بين هذا القرار وبين مؤسسة إمارة المؤمنين؟
إننا لا نطلب من الدولة أن تدعم الفضيلة كما تدعم أشياء أخرى على القنوات العمومية، ولا نطلب منها أن تدعو للأخلاق الكريمة كما تدعو لأشياء أخرى في نفس القنوات، إننا نطلب منها أن تقف على الحياد، أن لا تمارس إكراهاً على أحد من أبناء الوطن، أن لا تملي على أحد الطريقة التي يحيا بها، سواء كان يريد أن يرتدي نقاباً أو حجاباً، أو لا يرتدي، هم أحرار في اختيار ما يعتقدونه خيراً لهم في الدنيا والآخرة.
في الحقيقة لم تكن وزارة الداخلية تملك القدر القليل من الحكمة في قرار كهذا، ليس من مصلحتها أن تعادي أي فئة من الشعب، كيفما كان حجمها، وليس عليها أن تحاول التقليل من هذا التنوع في المجتمع المغربي؛ بل العكس من ذلك عليها أن تثريه، وأن تدعمه؛ لأن هذا التنوع من أسباب رقي الأمم وازدهارها، وهو من الأشياء التي تحافظ على أمن الوطن واستقراره.
لم تختلف وزارة الداخلية في هذا القرار كثيراً عن تنظيم الدولة، فهذا التنظيم يسحق شخصيتك بأن يلزمك بأن تحيا بطريقة يراها هو حسنة، فيجعل من المساكين الذين هم تحت سطوته شخصاً واحداً لا مجتمعاً حراً، وهذا تقريباً ما تسعى له وزارة الداخلية في هذا القرار، فهي تقول تعرّوا جميعاً، أو قل إنها تقضي على طريقة من طرق الحياة في المجتمع المغربي، وإن كانت هذه الطريقة هي الأقدم والأعرق بين كل الطرق الموجودة داخل المجتمع المغربي، وهي الأقدس أيضاً.
ليس من مصلحة المجتمع المغربي أن تظهر مؤسسة من مؤسسته بمظهر المعادي للدين، الذي هو أكبر جامع للشعب المغربي، والذي له فضل كبير في ظهوره هذه الدولة، ويكفي أن نسترجع كيف نشأت الدولة العلوية في المغرب؛ لنرى فضل الإسلام عليها، إننا ندعو وزارة الداخلية إلى أن تتمسك بالحكمة التي عهدناها بها في كثير من القضايا، وأن تعود عن هذا القرار، وألا تعطي مبرراً لكارهي الحياة بأن يعبثوا بأمننا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.