تبرز الحاجة إلى تأصيل البحث وتعميقه في ما يخص نهوض الأسرة بدورها تجاه الناشئة الطفولية والشبيبة من حيث تثبيت القيم السياسية لديها، وإبراز الاتجاهات والأشكال السياسية وحدود علاقتها بها كفرد من أفراد المجتمع، وهو دور يجد نفسه محجماً داخل المنظومة التربوية الأسرية لدى فئة واسعة من الأسر، بالمقارنة مع أشكال التنشئة الاجتماعية الأخرى الهادفة إلى تحقيق مستوى تعليمي جيد تفرضه مخرجات التوظيف والمكانة الاجتماعية، أو تحقيق الاستيعاب الضروري تجاه تقاليد وأعراف المجتمع، بما يضمن اندماج الناشئة وحفظ الأعراف.
موضوع المقالة كذلك يصعب أن تجد له كتابات مستقلة أكثر تفصيلاً رغم امتداده الموضوعي على طاولة البحث السوسيولوجي والسياسي والسيكولوجي.
على مستوى الأسرة النووية خصوصاً نفهم هذا القصور في سياق تفويض الأسرة للعديد من أدوارها لمؤسسات أخرى مثل المدرسة والإعلام، وهي مؤسسات إذ كانت تقوم بنوع من التنشئة السياسية، فإنه في الغالب يكون محكوماً بضوابط سياسية هادفة إلى حفظ النظام السياسي، واستنبات الولاء، دون تلقين للمبادئ العامة الضابطة للسلوك السياسي وللعلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ لخلق تصور واضح لدى الطفل/المراهق تجاه المفاهيم والمؤسسات والقوانين.
أما على المستوى البحثي، فقل ما تجد أبحاثاً ودراسات تتحدث عن دور الأسرة في التنشئة السياسية وطبيعة هذا الدور وأشكاله ومضامينه، سواء في علم السياسة الذي تغلب عليه إشكاليات طبيعة الأنظمة السياسية وعلاقتها بالأطراف والأحزاب السياسية، أو الدراسات الدستورية، وعلى مستوى الدراسات السوسيولوجية تكاد تغيب مثل هذه الموضوعات عن علم الاجتماع السياسي أو علم النفس الاجتماعي.
وهذا اعتبار قد ينطلق من طبيعة مركزية وحدة التحليل التي ينطلق منها الباحث في علم السياسة، والتي لا تخرج عن الدولة دائرة بحثية تستنزف طاقات بحثية فردية ومؤسساتية في سياق تجذرها وتغولها، ووحدة المجتمع بالنسبة للباحث السوسيولوجي المنشغل بمعادلات التأثير والتأثر البينمجتمعي وبين المجتمع والدولة وباقي المؤثرات الثقافية، فظل محور البحث هذا "الأسرة" وحدة للتحليل والدراسة بعيداً عن اهتمام الباحثين والأكاديميين، سواء في قياس أهمية إسهامه في المتغيرات السياسية، أو إبراز أهميته وإجلاء ضرورته في خلق مجتمع مالك لمفردات ومفاتيح الشأن العام.
إن التنشئة السياسية جزء من عملية التنشئة الاجتماعية المعنية بتلقين الفرد قيماً ومقاييس ومفاهيم مجتمعه الذي يعيش فيه، حتى يتمكن من شغل مجموعة أدوار تحدد نمط سلوكه اليومي، فتعبر بذلك التنشئة السياسية عن تلقين الفرد مجموع القيم السياسية من العدل، والشورى، والديمقراطية، وقبول الاختلاف، وإنكار الظلم، والحوار، والمواطنة، وتوضيح علاقته بالمؤسسات السياسية المحيطة به: الدولة، رئاسة، ملكية، حكومة، برلمان، بلدية، مقاطعة، شرطة، جيش، بمختلف الوسائل التعليمية، وكذلك ما يعين الناشئ على استيعاب تطور وطنه وأمته تاريخياً، وهذا دور لا تفويض فيه ولا نيابة، والأحرى أن تمسك به الأسرة التي أصبحت تكتفي بتحقيق الكفايات البيولوجية والاجتماعية لأبنائها، دون تأهيل ثقافي وسياسي.
يمكن الحديث عن التنشئة السياسية في الأسرة المغربية على مستويين اثنين؛ مستوى يتعلق بتنمية الوعي والارتباط بقضايا الأمة من خلال التفاعل مع شؤون الدول العربية والإسلامية، والمستوى الثاني المرتبط بالقضايا والمستجدات السياسية المحلية.
على مستوى قضايا الأمة:
تفيد الملاحظة بأنه على مستوى التفاعل مع قضايا الأمة، وفي طليعتها القضية الفلسطينية تقوم الأسرة المغربية بدور مهم بمساعدة الإعلام المحلي والعربي فيما يخص تنمية وعي الارتباط العقدي والوجداني تجاه الأقصى والمستضعفين من الناس في أرض فلسطين وباقي الدول العربية الإسلامية، وهذا تؤكده الجموع الغفيرة التي تخرج في مظاهرات تنديدية بمجازر الكيان الصهيوني ومواكبة ظروف ومستجدات الصراع والحرب بشكل مستمر دون الحاجة إلى تأطير الهيئات المدنية والسياسية، وهو ما يعني حضور الأسرة كقناة للتوعية والتأطير بقيم الوحدة العربية والإسلامية، واستهجان أساليب الظلم والتصفية التي ينتهجها الكيان الصهيوني، أو أساليب الاستبداد والتقتيل التي تعانيها الشعوب العربية من طرف أنظمتها السياسية.
على المستوى السياسي المحلي:
إن تأهيل وتكوين الناشئة على مبادئ الديمقراطية والعدل والحرية داخل الأسرة قادران على الإسهام في تحصيل جيل يمتلك أهم عناصر تحقيق دولة العدل والديمقراطية ونبذ ما دون ذلك، وفك الارتباط الحصري لهذا النوع من التنشئة بالأحزاب السياسية التي قد تفشل في كثير من الأحيان في إيصال المضمون الحقيقي للمفاهيم والمؤسسات باعتبار إكراه الامتيازات والانحياز الأيديولوجي والسياسي.
تأثير الأسرة المغربية وتأطيرها يمكن تناوله من خلال مؤشرين اثنين؛ يرتبط الأول منها بحالة العزوف السياسي والانتخابي الذي تعرفه ساحة المشاركة السياسية، والذي إذا كان جزء منه مرتبطاً بطبيعة النظام السياسي الذي يجعل جميع الأحزاب رغم اختلافاتها الفكرية والسياسية تشتغل بنفس الأدوات والاستراتيجيات دون أن تحمل هذه الأخيرة شيئاً من الطابع الأيديولوجي والسياسي للحزب الحاكم، بالإضافة إلى اشتغال الأحزاب في الحكومات تحت سقف محدد لا يجوز تجاوزه، هذا العامل بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل المصداقية السياسية والأخلاقية للأحزاب وضعف الإنجاز، يجعل الأفراد والأسر ينتهون إلى مفاد العزوف السياسي، وبالتالي نقل هذا التصور للأبناء وتنشئتهم على كون السياسة أداة لإنتاج السلطة والثروة لا غير.
المستوى الثاني مرتبط بالتربية على النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في الجانب السياسي، بمعنى ترسيخ مبدأ المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية والحقوقية لدى الناشئة، وتربيتها على إنكار الظلم والإجحاف في حقها وحق غيرها، وضعف هذا النوع من التربية يجد تفسيره في طبيعة إدارة السلطة داخل البيت من جهة، وبإرث طبيعة النظام السياسي المنغلق في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، الذي قام على المواجهة الصارمة للمخالفين وبعض التضييقات التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.
يبدو إذاً أنه لا يمكن القفز على دور الأسرة في تحقيق تنشئة سياسية، إما في اتجاه المشاركة والفاعلية أو في اتجاه العزوف والانكماش، وهو ما يجعل أي مطلب لتحقيق تغيير اجتماعي وسياسي رهيناً بالتدخل الإيجابي لكافة مؤسسات التنشئة الاجتماعية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.