قبل شهر من الآن كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي فشلت حكومة الائتلاف الحاكم، أو ما اتفق على تسميتها بحكومة الوحدة الوطنية، في حلها تضيّق الخناق على منظومة الحكم؛ إذ تواصل تدهور المؤشرات الاقتصادية فانخفضت نسبة النمو الاقتصادي لسنة 2016 لتصبح 1.5%، وتفاقم العجز في الموازنة العمومية ليصل لحدود 5.7%، وعجز الميزان التجاري لحدود 31.10%، وارتفعت نسبة المديونية لتصبح 63%، كما ارتفعت نسبة البطالة لحدود 15.5%.
أمام هذا الفشل الواضح في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، فإن حكومة الشاهد "الوزير الأول" لدى الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي ستواجه حتماً احتجاجات اجتماعية حادة خلال بداية سنة 2017، خاصة أن قانون المالية المقترح لسنة 2017 هو قانون تقشف بالأساس لا يقدم حلولاً ولا تصورات لتجاوز الوضع المعقد للبلاد.
في ظل انعدام الحلول وتواتر الاحتجاجات الاجتماعية نتيجة سوء تعامل بعض وزراء الحكومة مع المشاكل المتراكمة، وعجزهم على ابتكار حلول، فرضت إخفاقات الحكومة نفسها كموضوع نقاش في وسائل الإعلام والرأي العام عموماً، لكن استمرار وضع كهذا لفترة أطول قد لا يطيح فقط بالحكومة، بل بمنظومة الحكم التي بان زيف وعودها الانتخابية.
لا بد من حل؟
أورد "سون تزو"، في كتابه فن الحرب "في حالات الحصار يجب اللجوء إلى حيلة"، ويضيف في موقع آخر من كتابه: "إذا سألتني كيف أتعامل مع عدو قوي منظم ويتجه للهجوم عليك فإني أجيبك: ابدأ بالاستيلاء على شيء محبب إليه، وبعد هذا سيكون خاضعاً لإرادتك".
أما في الحال التونسي فهناك مثل شعبي قديم يقول: "اضرب على القرط ينسى الشعير"، الترجمة المباشرة من اللهجة التونسية إلى العربية لهذا المثل هي أنه لجعل الدابة تنسى حاجتها لأكل الشعير عليك معاقبتها لأكلها القش، حينها لن تجرؤ مرة أخرى على التفكير في رغبتها وحاجتها لأكل الشعير، هذا المثل الشعبي ككل الأمثال الشعبية مشبع بالحكمة، وهو خلاصة التجربة البشرية فيه تتركز بأسلوب بسيط ومباشر أكثر أساليب التلاعب بالسلوك وتوجيهه.
منذ أن صرح الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي في 2 ديسمبر/كانون الأول 2016 لوكالة الأنباء الفرنسية بأن خطورة الإرهابيين "باتت من الماضي والعديد منهم يرغبون في العودة ولا يمكن منع تونسي من العودة إلى بلاده"، ارتفعت أصوات عديدة وفي منابر عدة تهتف وتحمل نفس الرسالة: "لا لعودة الإرهابيين لتونس".
هؤلاء جميعاً ما انفكوا يترددون على وسائل الإعلام المسموعة والمرئية يشكلون فزَّاعة الإرهاب وينفخون فيها ويبثون الخوف ويصورون الأمر وكأن هؤلاء العائدين من جبهات القتال في سوريا يقفون في طابور وينتظرون الإذن بالعودة إلى تونس؛ ليعيثوا فيها فساداً.
من المعروف أن من السهل مقايضة الأمن بالحرية، وأنه أمام الإحساس بفقدان الأمن يمكن لمن يحكم ويملك تغطية إعلامية كثيفة أن يحول وجهة مطالب المواطنين بحل مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية؛ لتقتصر فقط على طلب الحماية من خطر هو في الأصل غير موجود أو هو في أكثر الأحوال أقل بكثير مما يصور لهم.
يعلم جميع الخائضين في مسألة عودة الإرهابيين أن قانون الإرهاب الذي تمّت المصادقة عليه في 7 أغسطس/آب 2015 هو المرجع القانوني الذي يتم التعامل على أساسه مع الإرهابيين ومحاكمتهم وفق أحكامه، وأن لا حاجة لاقتراحات استعراضية كسحب الجنسية وتحوير الدستور، لكنهم يتجاهلون ذلك، ويستمرون في تضخيم فزّاعة الخوف لفك الضغط على منظومة حكم تترنح.
لذلك لا يمكن إلا أن تكون صورة قمة في الابتذال تلك التي شاهدها التونسيون وأبطالها نواب كتلة حزب نداء تونس، دخلوا مجلس نواب الشعب حاملين لافتات كُتب عليها "لا لعودة الإرهابيين"، متناسين أنهم من المفروض أكثر العارفين بفصول الدستور، وأنهم هم من صادق على قانون الإرهاب، وعلى علم بالتزامات تونس تجاه تعهدات صوَّتت عليها سواء في المجلس الأممي لحقوق الإنسان في دورته الواحدة والثلاثين في مارس/آذار 2016، أو تجاه توصيات تقرير لجنة العلاقات الخارجية للبرلمان الأوروبي بتاريخ يوليو/تموز 2016، لكن يبدو أن حسابات السياسة أكبر عندهم من احترام الدستور وفصوله أو حتى تعهدات الدولة.
نجح الحل وحجبت الشجرة الغابة
استطاعت تصريحات الرئيس التونسي المثيرة للجدل والمتواترة حول عودة الإرهابيين لوكالات أنباء ومواقع أجنبية، ثم البلاغ الصادر عن رئاسة الجمهورية وكلمته بمناسبة حلول السنة الإدارية الجديدة، وتواتر تناول الموضوع بطريقة تكاد تكون يومية على أغلب القنوات التلفزيونية والإذاعات والجرائد، توجيه الرأي العام وتحويل اهتماماته ومشاغله ومطالبه من طابعها الاقتصادي الاجتماعي إلى طابع أمني بحت، واختصارها بالبحث عن حل لمشكل محلول بقانون الإرهاب ودعم أكثر للمؤسسة الأمنية والعسكرية وللسلطة القضائية، ومزيد من التعاون والتنسيق على المستوى الدولي.
هكذا يبدو الوضع في تونس، وكأن الزمن عاد إبان الحملة الانتخابية التي بُنيت على التخويف من الإرهاب ومخاطره، وعلى دماء ضحاياه، نفس الحجج وتكاد تكون نفس الجمل والكلمات مع تغيير بسيط في مصدر الإرهاب الذي أصبح الإرهابيين القادمين من سوريا عوض إرهابيي الشعانبي وجبل المغيلة.
نفس الوصفة التي نجحت خلال الانتخابات الفارطة في حجب زيف الوعود الانتخابية، وعدم واقعيتها هل تنجح اليوم في حجب الفشل الذريع لمنظومة حكم نداء تونس وحلفائها؟ وإلى متى ستكون عودة الإرهابيين الشجرة التي تحجب الغابة؟
أمور أخرى أكثر أهمية وأشد إلحاحاً بحاجة لاهتمام النخب التونسية، من بينها إكمال تركيز الهيئات الدستورية، ومسار العدالة الانتقالية، والتسريع بتركيز الحكم المحلي عبر انتخابات بلدية تسهم بصورة سريعة وفعالة في تنمية المناطق الداخلية، وحل المشاكل الحقيقية للمواطنين الذين ملّوا الانتظار والمماطلة والوعود الكاذبة، ومن أن يكونوا ضحايا فصول أكبر عملية تحايل في تاريخ تونس.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.