رسالة شوق من القلب للقلب

لا شيء يشي بأن هنا حياة كالحياة التي نرسمها أو ترسمها أحلامنا الوردية بألوان قوس قزح، ولا أخفيك سراً، فالقراءة لم يعد يتسلل إلى رأسي منها شيء، رغم شح الوقت وقرب الامتحانات اللعينة، فالصداع المعتوه الذي أصابني مُذْ عودتي لمدينة العدم، ما زال ضيفاً على رأسي، ثقيل المقام، فهو صداع من طراز صاعق.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/08 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/08 الساعة 02:47 بتوقيت غرينتش

أكادير، يوم آخر جمعة من العام الـ16 من قرن الموت والتشرد المجاني للإنسان كأنه إنسان.. ساعة استسلام الشمس لسطوة الظلام، وتزين عيون الأفق بمكحال الليل الغِربيب.

كل ما كُتب أعلاه لا يعبر عن شيء ألبتة، لا المكان كما عدته حين تكونين، ولا الزمان زمان يستطيع أن يَضُمّنا لنحياه، كل تلك الأشياء صارت لي كأثاث بيت عتيق باذخ الزينة، هجره أهله فصار مرتعاً للعناكب.

أعلم أن زمن الرسائل ولّى الأدبار، مخلِّفاً وراءه سيل حبر جارف، ذهب جفاءً؛ أمام جحافل التكنولوجيا الحديثة، المفرغة من مشاعر، والفقيرة الأحاسيس.

أعلم أن التطبيقات الذكية تنقل الصور والأصوات، التي حلت محل حروف صامتة النقش، صاخبة المعاني، متقدة اللواعج..

لكن، لا أدري هل سُكراً ترنحت أم هي الأشواق لوحت بي، لألوح بحروفي في رسالة قد تبقى حبيسة هذه الورقة وقد لا أكملها!

وأعلم أننا أبناء مجتمع بدوي، لا يعرف العشاق فيه الكتابة؛ بل يترجم المحب مشاعرها إلى "كيفان" صبابة، أو تترجم لواعج الأنثى في "التبراع" حيناً، أو تتكوّم على نفسها في صمت صاخب أحياناً أخرى، لكن كما كنت تقولين دائماً: "لسنا مثلهم".

أنا الآن جالس إلى الطاولة التي تحلّقنا حولها آخر مرة كنا معاً، حين خبت بنا رياح الحب إلى ركن ذلك المقهى، قبالة الشاطئ.

لا شيء يشي بأن هنا حياة كالحياة التي نرسمها أو ترسمها أحلامنا الوردية بألوان قوس قزح، ولا أخفيك سراً، فالقراءة لم يعد يتسلل إلى رأسي منها شيء، رغم شح الوقت وقرب الامتحانات اللعينة، فالصداع المعتوه الذي أصابني مُذْ عودتي لمدينة العدم، ما زال ضيفاً على رأسي، ثقيل المقام، فهو صداع من طراز صاعق.

لا أخفيك سراً، المقهى يغص بفتيات من كل الأصناف والأعمار، محتشمات وشبه عاريات، عطورهنّ تخطف الأنفاس وتغوي أي ناسكٍ حد الرفث والفسوق، لكني أحسُّك جنبي، في عيني وقلبي، في شفتي وبين يدي؛ الأجمل طلة، والأنيقة حضوراً، والأذكى حواراً، فقد استوطنتِ واستفحلتِ عمق تجاويف الفؤاد الصامت إلى حين.

ولأني هنا بين نارين لا مناص من حرائقهما؛ أمسكت هذه الورقة وأخذت أكتب على وجهها بلا إدراك، أكتب بأسارير وجهي القمحي الشائخة، وأعضاء جسمي الطفولي المترهل؛ لأحسك جنبي ولأكونك..

بعد أن جمعت حزمة عقارب الوقت السامّة سويعات التنائي، وزحف نمل الثواني القاتلة وقت الانتظار، في كيس محكم الإغلاق؛ كي تتوقف حتى أصحبك وأصبّحك.

أكتب برصاص قلم الرصاص، بعنفوان الأبجدية، بفصول تاريخ البوح، بكلمات العشاق الناقصات والتامّات، بدم الحبر الأحمر كعشق يجري بك في الوريد؛ ها أنا أكتب لأكتبك.

صغيرتي الحمقاء.. هناك سؤال طالما راودني، غافلني وأرهقني، لكني كنت في خضمه دائماً أعود بخُفَيْ حنين، دون إجابة تشفي صداعه: لماذا يكون الوقت كالماء، عندما نكون معاً، لا نمسكه إلا تسلل من فروج أصابعنا كالماء؟! لماذا يضرب كالبرق وميضاً وسريعاً كالبراق؟! لماذا يطعن سويداء اللحظة المقدسة بقداسة مشاعر اثنين من زمن غير زمانهم، بنصل الديق والشح؟!

ولماذا؟!
لماذا تتوضئين بدمع العيون المالح، وتُيَمِّمين وجهك شطر الغضب الزمهريري الحارق، قبل إقامة صلاة الغيرة في هيكل قلبك، وأنت تعلمين أن كل نساء الأرض لا يساوي غنجهن ودلالهن استدارة قمر ظفرك، وأن وجهك الآسر ينسي فيهن ولا ينسى؟

أتظنين -يا شقيقة الروح المنهَكةِ والمنتهَكة- أني وصلت من درجات النسيان حدود أن أنسى عهداً قطعناه معاً؟ أم تظنين أن هذه الإناث المزورة أنوثتهن بعقاقير المختبرات، يستطعن -إن اتحدنَ جميعاً- تشكيل قُبلة حب من شفاهك التوليبية المنظر، التي اقتُبست من الشهد عنواناً لبريد طعمها؟!

أنت في القلب المثخن بالجراح، ضمادة عشق يتدثر بها كل ما تسللت إليه رياح التزعزع العاتية، يجفوها وجوه الكره والحقد بعنفوان العشاق اللامتناهي العطاء.

لا أعرف -يا كل الهبل المشتهى والجنون الحلو- هل كان هذا هو ما أردت قوله من بداية السطر، أم أن الكلمات انطلقت على أعنّتها لترسم لك موناليزا الحب؟!

سأختم الرسالة يا غيمتي الشفافة مثلي، فقد بدأت أصابعي تتعرق، وقد ذكرتني بأصابعك الأنثوية التصميم، الغارقة في ماء القداس، الذي غسلت به عني كل غبار العذابات، التي سبقت يوم ولادة حبك ذات منفى صقيعي القسمات.

صغيرتي الحمقاء مثلي..
وكاتبتي المهمومة..
تعلمين أكثر من غيرك ما يسببه هذا العرق في يدي، من عبث ومن قلة قدرة على الكتابة، لذلك آثرت أن أختم مكتوب الشوق هذا، بكلمات ليست كالكلمات، كتبها القلم الثائر للورقة المتمردة، إنها من كلمات غسان كنفاني لغادة السمان، ذات رسائل عشق، مضمّخة بالحب نكايةً في روائح الموت والبارود والنحاس:

"أرجوكِ.. دعيني معك. دعيني أراك. إنك تعنين بالنسبة لي أكثر بكثير مما أعني لك وأنا أعرف، ولكن ما العمل؟ إنني أعرف أن العالم ضدنا معاً، ولكنني أعرف أنه ضدنا بصورة متساوية، فلماذا لا نقف معاً في وجهه؟ كفِّي عن تعذيبي؛ فلا أنا ولا أنت نستحق أن نسحق على هذه الصورة. أما أنا، فقد أذلني الهروب بما فيه الكفاية، ولست أريد ولا أقبل الهروب بعد. سأظل، ولو وُضع أطلس الكون على كتفيّ، وراءك ومعك. ولن يستطيع شيء في العالم أن يجعلني أفقدك فقد فقدت قبلك، وسأفقد بعدك، كل شيء".

مجنونك سعيد
أحبك، أهواك، أعشقك..

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد