وأخيراً أدركت العمر الذي كان الناس ينطقون به في جلساتهم، فأشعر أني بعيدة كل البعد عن هذا العمر الجديد الكبير.
"كم عمرك؟" تجيب أمي: "اثنان وثلاثون".. ياه وكأن هذا الحديث تجريه أمي البارحة، لا فرق سوى أني اليوم في مثل عمرها وأكثر.
أين مني اليوم جديلة المدرسة، ومريول باهت اللون، وفرصة تنتصف الحصص، تأتي وتروح على عجلة صنعنا فيها ذكريات كتبت بطباشير المراهقة، وانمحت فور دخول معلمة تحمل مساحة اللوح؟!
هكذا هي الأيام نتهمها بأنها تمضي على عَجَل رغم أننا مللنا طويلاً وكثيراً من حصة لا نحبها، وبكينا أكثر بعد امتحان اعتقدنا أنه أصعب مما هو مقرر، وكرهنا إجازة يطول نهارها لا نفعل فيه شيئاً فنشتاق أكثر لكل شيء في المدرسة.
أجمل الصداقات تُصنع في المدرسة!
في عمر الثلاثين هذا أشعر أني أجدّد التقويم السنوي أكثر من مرة في السنة، فأحاول من غير نجاح مسابقة أيامي، وأكتشف أنه قد مرّ أكثر من نهار وأنا وسط زحام ما يجب فعله من الأمور لهذا اليوم فقط، ومهما كانت حياتي الماضية ممّلة أو تكاد لا تتسع لتجاربي فهي بالضرورة حياة جديرة بأن تروى كأكثر من قصة واحدة.
مع قليل من الشك، لا بد أن سن الثلاثين هذه غريبة بأسرارها، ومتناقضة بأفكارها، ورمادية بتطلعاتها، وتتأرجح فيها درجة الإيمان بين الزيادة والنقصان.
سن الثلاثين هذه ورطة قادمة لا محالة! فمنذ متى وأنت متورط؟
هل أسرع عمر الثلاثين في مجيئه؟ لم أسمع صوته جيداً، هل تأكد عمر العشرينات أنه غادرنا في الوقت المناسب؟ وهل هو متأكد أنه لن يعود من جديد؟ يصلني الجواب في إعلان تجاري يسوّق منتجاً هدفه أن يعود بي إلى نضارة وحيوية العشرينات، فأتأكد أن العمر لا يتأخر في التقدم.
مخطئةُ أنا عندما أشعر أنه أيام قليلة تلك التي تفصلني عن طابوري الصباحي المدرسي، عندما كنت أرفع العَلَم على سارية ساحة المدرسة، وتثني علي معلمة اللغة العربية؛ لأني من قلائل الطالبات اللواتي ينشدن "موطني" عن طيب خاطر يومي.. نعم مخطئة!
أيها الثلاثينيون: أنتم الحد الفاصل في كل ليلة يلتقي فيها عامان، أنتم الطعم الغريب للحلو الحامض!
أي معول حملتَ لتحفر في أرض اخترتها على مهل أو عَجَل؟ وماذا زرعتَ؟ وماذا أنت فاعل فيما زرعته؟
كالعطر يمر هذا العمر، يفوح ثم يهدأ، ثم يكاد يختفي ويترك أثره على ملابسنا حتى ينفد.
"بيني وبينك" ألم يأخذك مشهد أبناء الجيران وأنت تراقبهم من نافذتك إلى حيث كانت الأرضُ أرضكَ وملعبكَ وأصدقاءَ حارتك وطابتك وصراخك، وتذكر بكاءك تحت الشتاء من حذاء يظهر منه إصبعك ابتاعته والدتك قبل أيام أيها الثلاثيني اليوم، كنت يوماً ما وعمراً ما مكانهم!
وعندما تدرك الثلاثين فأنت ربما فردُ متفائل أو آخر نكدي يلفك التشاؤم، أو أنك فردٌ غني أو تكاد، أو أن حالك لم يتغير منذ وفاة والدك، وفي الثلاثين أيضاً تكونين امرأة متزوجة أو تبدئين بسماع همسات تفهمين أنها كلمة عانس، وبناء على الحالة الأولى ستصبحين أماً تنجبين أطفالاً أصحاء أو يلزمهم الكثير من العلاج، أو للأسف يخبرك الطبيب أن مشكلة ما قدرها الله لك لن تمكنك من الإنجاب، ولن تنتهي الحالات المترتبة على تصنيف المجتمع للحياة.
وفيما يتعلق بتصنيفك كـ"عازبة تأخرت عن الزواج"، فمجتمعنا يدرك ولا يقولها جهاراً: إنه السبب فيما أصابك من كثير من الحزن، وما يتأثر حقيقةً في هذه المرحلة هو كبرياؤك أمام نفسك وعائلتك، ويعزّ عليك نظرة جارة مسنة تفترض أنك كبرت على أن تتزوجي رجلاً قريباً من عمرك لعلّة فيك ربما فيها كل الخير، لكن من حولك سيظل يرى في أي نجاح أدركته علّة تؤخرك عن الزواج أو لا تُزوجك.
كما أنكِ ستستقبلين "الثلاثين" أيتها المستجدة بوزن زائد أو ستودعين مع سنينك الماضية ما زاد عن حاجتك من الكيلوغرامات، هذا العمر الغامض ربما يخبئ لك مرضاً خبيثاً أو أنه يخطئك ليصيبك في سنوات قادمة، أو يقرر أنك لست ممن وقع عليه الاختيار فيغادر أسرتك أجمعها، ويأتي دور أسرة أخرى يحط عليها بشقائه إلى أن يشفى صاحبه أو لا.
وفي مرحلة ما من عمر الثلاثين ربما يُصنف الفرد كلاجئ، أو "يهرم" وهو على حاله، ربما يأتي ويذهب مع المغتربين، وربما ما زال حلم السفر أو الهجرة يراوده، وربما يكون قد فقد سيارته الأولى في حادث أليم انقلبت فيه حياته كما سيارته.
ربما يصحو ببعض الشيب ورغبة بالبكاء، يسأل نفسه: أنا أصحو في كل يوم لأفعل ماذا؟
وهنا أريدك أن تطمئن، اطمئن إذا استيقظت ذات صباح من كابوس انسحب على واقعك شعرت فيه بضياع غريب، فأنت لست وحدك، كل الثلاثينيين شعروا بذلك، نعم نحن نشعر بذلك، هل يذكرك هذا الشعور بضياعك وأنت مراهق عندما بدأت مسيرة البحث عن ذاتك؟ إذا كانت الإجابة: نعم، فلا بد أن تطمئن.. اطمئن؛ لأنه يبدو أن الإنسان لا يضيع مرة واحدة.
خذ كرسياً قريباً لتجلس قبل أن تقرأ السطور التالية:
وأنت في الثلاثين انظر جيداً لأمك وأبيك، اشعر بهما جيداً، هل فهمت أن اليوم يمر عليهما طويلاً جداً وأضف "جداً" أخرى، يسترجعان في نفس اليوم ذكريات ثلاثين عاماً وأكثر ويظل الليل بطوله وعرضه ينتظرهما، فماذا بقي ليتذكراه؟
كم هو شاق شعور الوحدة! كم هو محزن أن هناك سريراً ينام فيه فرد وحيد، ومحزن أن يظهر في المرآة فرد واحدُ فقط، وكم يشق على هذا الفرد أن يصحو وحده ولا يسمع سوى صوت أنفاسه، كما يشق عليه أن يطهو الطعام له وحده كما يحبه دون فلفل، لا أحد يقلب قنوات التلفاز غيره، لا أحد سواه يشعل الضوء عندما يحل المساء، ولا أحد سواه يقفل باب منزله بالمفتاح، ولا أحد ينتظره عند عودته من الخارج ويعاتبه: تأخرتَ!
يعيش مع وحدته هذا الأب أو هذه الأم اللذان مضى عمرهما معك وأنت اليوم ليس معهما، أنت اليوم مع عائلتك.. غير بعيد ذلك اليوم الذي سيأتي وربما، ربما ترث فيه هذا النوع من الوحدة.
وأنت في الثلاثين هل ما زلتَ تفكر في مقاطعة المنتجات الإسرائيلية وغير الصحية؟ هل ما زلت تعتقد أنك ستغّير العالم؟ كم مرة كذبت على نفسك؟ وكم من حوار تدربت عليه وتمنيت أن تجريه مع أحد غيرك! صدق أو لا تصدق ستظل الأمور تشبه بعضها: فألم الولادة هو نفسه منذ آلاف السنين، وسيظل الوطن المحتل حديث كل لاجئ، سيظل البحر غادراً وناقلاً، سيظل الصوم يأتي في كل رمضان، وسيظل الخريف فصل الأحزان، وستتوالد العائلات عائلات أخرى بنفس الاسم، كما سيرث الابن ذكاء أمه أو غباءها، ربما تصبح أكثر تعاطفاً مع اللقطاء والفقراء، ربما فكرت مرة بالجهاد أو الانتحار، ربما عزمت على بعض الأمور ثم.. ثم نام العزم فيك.
وربما فجأة.. تموت، وأنت في الثلاثين!.. فهل عرفت ذلك؟ أنك عندما تدرك الثلاثين.. أتراك تتغير أم أنك فقط تكبر؟!
ملاحظة: قريباً ستزيد ورطتك عاماً وستنعت هذا النص بالكئيب اليتيم! وربما أنا وأنت لن نبالي. فدعنا نتحايل على هذه الورطة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.