ولدك يكبر.. ولكن

كما أصبحت الكثير من الأمهات مجبرات على العمل لتحقيق ذات الهدف، فيضطررن إلى ترك أولادهن في السنوات الأولى من عمرهم للالتحاق بدوام العمل، ويغيب معظمهن عن أولادهن طيلة النهار، مما يجعل الكثير منهن غير قادرات على رعايتهم وعلى متابعة دراستهم وحل مشكلاتهم والاهتمام بشؤون المنزل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/31 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/24 الساعة 10:37 بتوقيت غرينتش

من منّا لا يريد الأفضل لأولاده؟ فنسعى إلى أن نوفر لهم أفضل متطلبات الحياة من طعام وشراب وكساء وعلاج وتعليم، ويقوم الكثير منا باتباع كل وسيلة متاحة وممكنة وحتى شبه مستحيلة لتحقيق ذلك، فنجد من يغترب بعيداً عنهم، وآخر لا يتمكّن من العودة إلى المنزل إلا في الإجازات الأسبوعية، وثالثاً يعمل في أكثر من وظيفة، وغيره يتحمّل مختلف أنواع الضغوط النفسية والجسدية في عمله.

كما أصبحت الكثير من الأمهات مجبرات على العمل لتحقيق ذات الهدف، فيضطررن إلى ترك أولادهن في السنوات الأولى من عمرهم للالتحاق بدوام العمل، ويغيب معظمهن عن أولادهن طيلة النهار، مما يجعل الكثير منهن غير قادرات على رعايتهم وعلى متابعة دراستهم وحل مشكلاتهم والاهتمام بشؤون المنزل.

وأذكر هنا إحدى الرسومات الكرتونية الساخرة التي سلّطت الضوء على ذلك، وفيها يرجع الابن من السفر متلهفاً لعناق العاملة المنزلية الأجنبية بدلاً من أمه محدّثاً إياها بنفس لغتها التي لم تفهمها أمه، فهذا الاهتمام الكبير بتوفير مصاريف الأولاد من كلا الوالدين يجعلهما غافلين عن رعاية الجوانب الأخرى لهم، التي هي أساس تنشئتهم وإعدادهم لمواجهة الحياة، ولبناء مستقبلهم.

وتزداد صعوبة تربية الأبناء ومساعدتهم على النجاح في الاستقلال والاعتماد على أنفسهم مع زوال العائلة الممتدة، فالطفل في السابق كان يعيش العادات والتقاليد وثقافة العائلة من خلال وجود الجد والجدة والأعمام والأخوال في نفس المنزل، كما كان يتشرّب منهم الإرث الذي يميّز كل عائلة عن أخرى، كالحرف والمهارات، فيميل الطفل حينها إلى اتباع ذات المجال؛ ليكون نجاراً أو حداداً أو مزارعاً كأبيه وأعمامه وأجداده، ضامناً بذلك مستقبلاً قادراً فيه على إيجاد لقمة العيش، ومتخلّصاً بذلك من شبح البطالة الذي يلاحق الكثير من أصحاب الشهادات الأكاديمية في المدن، فيصبح قادراً على بناء عائلته الخاصة، ورعايتها عن قرب.

ولهذا السبب نجد في بعض القبائل التي تمكّنت من الصمود ضد الزحف الصناعي أخلاقيات وكرماً لدى أبنائها أفضل مِمن يعيش في المناطق الأخرى التي تدخلت فيها عوامل خارجية كثيرة في تنشئة الطفل وفي غرس معتقداته، كالتلفاز والألعاب الإلكترونية والعاملة والحضانة والمدرسة والجامعة. حتى إننا نجد تميّز التربية الدينية في المناطق النائية والبادية عن غيره، ويعد أحد أسباب ذلك هو المراقبة المستمرة من قبل الأهل والمجتمع له، فالطفل عندهم ينشأ في ثقافة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبالتالي يتردد في فعل الخطأ ويتشجّع على عمل الخير.

إذاً كيف يمكن تأهيل أولادنا على بناء ناجح لمستقبلهم؟

أولاً: أشارت إحدى المقالات حول تربية الطفل إلى أهمية تعليمه مهارات أساسية ليتمكّن من الشعور بالمسؤولية، مثل قدرته على تحضير الطعام وإطعام نفسه وغسل ملابسه وتحضير حقيبته المدرسية والاستيقاظ صباحاً دون مساعدة أهله، إضافة إلى تعليمه كيفية التكّلم مع الغرباء، والتعبير عن نفسه، والدفاع عنها، وهذه الأمور لا تساعد الطفل فقط في الاعتماد على النفس، وإنما تنمي لديه جوانب مهمة في الشخصية كالثقة بالنفس وحب الذات وتقديرها.

ثانياً: على الطفل تعلّم الإحسان إلى الآخرين، وحسن التعامل مع الجيران، واحترام الكبير ومعايدة المريض، والتصدّق على المحتاجين، وبرّ الوالدين، وهذا لن يتعلمه بحفظه في الكتب وفي الاستماع إلى مختلف البرامج الدينية والثقافية، فلكي تنغرس فيه وتصبح جزءاً من وعيه وشخصيته، عليه بممارستها وتشجيعه عليها، ولذلك كان الأب في السابق وفي البادية جليس ابنه ويصحبه معه ويدرّبه ويرشده، وكانت الابنة رفيقة أمها، فتتعلم منها مختلف المهارات كالحياكة والتطريز والطبخ والتنظيف وغيرها، فكان الابن يكبر رجلاً قادراً على تحمّل المسؤولية، وتكبر البنت وهي مؤهلة للزواج ولرعاية بيتها ولتربية أولادها.

فعلى الأهل إدراك أن ولدهم لن يكبر بتوفير ما يحتاجه وعند طلبه، ولن يتمكّن من بناء علاقات ناجحة مع الآخرين دون تطوير لمهاراته الحياتية، فهو يحتاج إلى الانخراط في المجتمع وتعلم مهارات التواصل وتذوق حلاوة مساعدة الآخر، وإلا فإنه سيكون معرضاً للشعور بالفراغ وسوء إشغال نفسه، وأحياناً كثيرة سيتمرّد على كل شيء، ولهذا السبب بالذات نجد انتشار مشكلات المراهقين في الحياة المدنية من سوء أخلاق واكتساب للعادات السيئة، من شرب للمسكرات والإدمان والتسكّع في الطرقات وغيرها من الانحرافات، فغياب الرقابة والصرامة وروح المبادرة يجعل الشباب ضائعين حيرانين في دورهم بهذه الحياة، فلا يحسنون استغلال الوقت، ولا أهمية العمل، ولا حتى إدراك وجود آخرة التي لن ينالوا فيها البر دون عمل واجتهاد.

ثالثاً: توفير الوقت لهم وفتح قنوات الحوار معهم ومتابعة شؤونهم، ومن ثم تشجيعهم على الصحبة الصالحة، فبحسب كتاب "تربية البنات" لاختصاصية علم النفس الألمانية جيزيلا بريشوف، لن تتطور مهارات الطفل عبر مشاهدة التلفاز والتفاعل عبر الإنترنت وغيرها، وإنما بالحوار مع والديه ومشاركتهما إياه مختلف الأنشطة، وفي العصر التقني العالي الذي نشهده، يمكن لكلا الوالدين البدء في البحث عن مختلف الوظائف التي يمكن إنجازها دون الحاجة إلى ترك أولادهما. كما يمكن للأم الجديدة أن تقلل من ساعات العمل في وظيفتها لترعى طفلها أو أن تطلب العمل من المنزل، فهناك دوما حل مناسب لكل الأطراف.

رابعاً: تنمية مختلف مهارات الطفل وتشجيعه على تطويرها، كالرسم والتنس ولعبة السلة والسباحة، وبذلك ننمي شعور الطفل بالثقة بالنفس والفخر بها، وإشغاله بنفس الوقت بما يفيده، وهذا ما أشارت إليه بريشوف أيضاً، فهو من الأهمية لما له دور في حمايته من الانحراف.

خامساً: تقنين استخدام الطفل للتقنيات المختلفة وعدم تشجيعه على استخدام مختلف تطبيقات الأجهزة اللوحية، فهي إضافة إلى أنها وسيلة قوية لإلهائه عن تطوير مهاراته وتعليمه، فقد ثبت ضررها على صحته الجسدية والعقلية؛ إذ أفادت إحدى الدراسات التي نشرتها مجلة جاما لطب الأطفال، بأن الإكثار من استخدام هذه الأجهزة من قبل الأطفال والمراهقين سبب لإصابتهم بالسمنة والاكتئاب والقلق وضعف في الذاكرة ومشكلات في التفاعل الاجتماعي، كما أنها تزيد من نسبة النوم المفرط لديهم أثناء النهار، بمعدل 200 في المائة.
وبيّنت دراسة أخرى أثرها الضار على سلامة النظر لديهم نتيجة استخدامها.

وأخيراً، تعليم الطفل حب الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فقد أوصى الرسول بذلك بقوله: "أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبّ نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن"، وهذا لن يتحقق إلا بالقراءة للطفل عن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، في مختلف مجالاتها، وبيان الحكمة في قصص القرآن الكريم في آياته الكريمة، التي فيها تظهر نصرة الخير على الشر، وتفضيل الله للعبد الصالح على السيئ، كما سيدرك الطفل حقيقة الحياة الدنيا، وأنها دار عمل لنيل الثواب في الآخرة، فيحرص على استغلال الوقت والعمل الجاد وخدمة الآخرين لنيل الحسنات المنجيات، وسيكبر شعوره بالانتماء والفخر للأمة، وستتعزز لديه الهوية الثقافية والدينية، فيصبح قوياً في مواجهة مختلف التغييرات البيئية والثقافية، وصامداً ضد الهجمات الدينية المشككة في حقيقة الكون والموت والحياة، وقادراً على تحقيق دوره في الخلافة على هذه الأرض، بما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد