"من لا يتعلم دروس الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، يبقى في العتمة".. غوتة.
لا تقنعني الصورة التي يرغب معظمنا أن يربطها بالحب، صورة نستوحي منها سواد أيامنا وكأننا نريد عن سبق إصرار زجَّ الحب في سجون العذاب والوهن، فقد ورثنا من قصص الحب الإشفاق على عشاق قضوا شهداء للحب.
لطالما كان الحب من المحظورات؛ كم من قصص عشق نبتت وهرمت ودفنت تحت أرض الكتمان، كم ناضل العشاق ليحظوا بلقاء خفي خاطف، ولم يكن لديهم من مطامع سوى حياة متوازنة يصحبها قلب يخفق دون توقف. بسبب تراث العشق ذاك نشأنا نحمل الحب والذنب على كفَّتَي ميزان، ولم يسمح للحب أبداً أن ترجح كفته، فالحب ممنوع نتمناه ونهابه، وإن حدث واستقبلنا موج الحب بشجاعة، عشناه مصحوباً بالخوف من الفراق بحجة أن الحب للحبيب الأول، وأن أي حب بعده هو دعوة للنسيان، فأصبحنا نتحاشى الحب خوفاً منه أو من أثره علينا إن فقدناه، وإن اجتمع حبيبان رغم كل الشبهات المحيطة بالحب، لسعتهما فقاعة أن الزواج مقبرة الحب وبداية النهاية التي نختارها مجبرين.
لم نفكر يوماً أن الحب ممكن، وأن التجربة الفاشلة لها أسباب اجتمعت لتنهيها، فهي إن انتهت لم تكن حباً، ولم نفكر أن الحب قادم يوماً حاملاً الفرح الذي خلق من أجله، الحب الذي لا ينهيه حتى الفقد، وليس الذي ينتهي بالفراق.
آن لنا أن نعري الحب من ذنب الألم المكدس فوق جسر مضيء باللوعة، فالحب فسحة جميلة لفرح غير مسبوق، فإن خذلك الحب فتمسك بالقوة وكن ندماً لا ينسى لحبيب فارّ، وضع ذلك الخذلان في أصغر قصاصة وارمها بعيداً في غرفة مظلمة من غرف الذاكرة، فلا شيء يمحو التجربة، إنما تعالجنا الذاكرة بإطفاء الضوء على ما ندعي نسيانه بخباثة.
الذكريات هي الوجه القبيح للحب، فهل نضع اللعنات على قبور الحب السابقة أم نتركه يرحل بهدوء؟
لا شك أن الحب كان أحد أهم الأسباب وراء عبقرية بتهوفن، فقد ترك لكل الأجيال بعده "سوناتا ضوء القمر" التي كانت بمثابة رسالة حب تختزل كل الحب وكل المفردات وكل الهزائم، ورغم الإجماع على أن سيمفونيته ذائعة الصيت هي لحبه الأول فإنه أحب بعدها، بل هناك ثلاث قصص حب عاصفة عاشها بتهوفن حبه الأول إحداها فقط، وعند مماته وجدوا رسائل حب لم ترسل إلى "الحب الخالد"، ولم يؤكد أحد إن كانت لحبه الأول أم لم تكن، فالحب الخالد قد يكون الأول وقد يكون الأخير وقد يكون حلماً بحب لم يعِشه أبداً.
شيء آخر لم نأخذ عبرته من التاريخ بصورة صحيحة؛ فالمرأة ليست الخاسر الوحيد في الحب ولا الطرف الأضعف، وإن أردنا دليلاً من أساطير الحب القديمة، فهذه قصة تاجوج الغريبة، غريبة لأننا لم نعتد أن تصدر المرأة الفتوى في نهاية قصة عشقها، فكما روي طلبت تاجوج الطلاق بنفسها من زوجها المحلق الذي ملأ الكون بوصف جمالها، وكان قد أفرد أبياتاً لوصف هذا الجمال، حتى احترق الرجال غيرة، فطلبت الطلاق حين سمح زوجها المسكون بهيامه لها لأحدهم رؤيتها من خلف ستار ليصدق مدى جمالها الذي يتعذر وصفه على أعظم الشعراء، فقد غاب عن المحلق أن عين الحبيب ترى الجمال بقلبها أيضاً.
كم غرقت النساء في تكهناتهن عن الحب والحبيب، وكم ضاع من الرجال خلف حب عاصف!! مَن وضع قائمة الممنوعات تلك، ووضع أطراً وقوانين للحب؟ لقد خلق الله الحب فينا ولم يكن يوماً خياراً، لكننا رحنا إلى تشبيهه بالداء فأصبح داء ومريضاً بالعمى!
في الفترة الأولى بعد لقائي بزوجي، التي اعتقدنا أنها الفترة التي يكون الحب فيها في أوجه، أذكر أني سافرت في رحلة لم تتعدَّ عشرة أيام، ورغم جمال أوروبا وخضرتها الساحرة، وبرنامجي المزدحم بتجارب عملية أولى بدهشتي وتفكيري، كان وتر الشوق يضاعف إحساسي بالزمن، وكأنه يضاعف الوقت عشرات المرات، شعرت بأني غريبة وسط زملائي، عرفت ماذا تعني تلك الكلمة المكررة التي لم تحرقني يوماً "الغربة"، وأيقنت أن الحب قطعة من الوطن تبقى داخلنا حين نرحل لتجبرنا على العودة سريعاً، ونعرف بعدها أن الحب يبقى متوهجاً وإن اختلفت تفاصيله، فالحب جغرافية المشاعر.
قوة الحب ليست في قدرته على استنباط ضعفنا من جوف قلوبنا، وكأنه بركان يهاجمنا ويحصد أرواح مشاعرنا ونحن مبتهجون، بل هو القادر على تعريتنا تماماً من كل الفضائل التي نزعمها، مرآة سحرية تلتقط عيوبنا أمام أنفسنا لنلتقيها لأول مرة.
الحب فعل أناني، ككرة الثلج المتدحرجة تكبر مع الوقت، وقد تسقط في وادٍ محطمة إن لم تجد بيئة مناسبة لتعيش فيها.
ما يقوله محمود درويش عن الحب دقيق للغاية "حين ينتهي الحب أدرك أنه لم يكن حباً، الحب لا بد أن يعاش لا أن يتذكر".
الحب حياة وليس ذكرى… فعل ذوبان كامل في الآخر، الحب استمرار لا نهاية له، هو ما يبقى أثره حتى بعد الموت.
الحب ليس للحبيب الأول؛ لأن حاضرك أولى بنبضات أحلامك، أولى بلهفتك وقلقك، الحاضر ماضٍ يقترب ليس لحبيب سلمك لعهدة الماضي ورحل، الحب لذاتك الحاضرة المسافرة على الدرجة الأولى في رحلة الغد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.