القسطنطينية.. مدينة الملائكة

وبعد فتح القسطنطينية وجد الفاتح نفسه أمام مدينة مدمرة كان لا بد من إعادة بناء المدينة، فماذا فعل لتحقيق ذلك؟ أمر بجلب عدد كبير من الأتراك المسلمين والمسيحيين من وسط الأناضول، الذي كان يعتبر الخزّان البشري إلى إسطنبول.

عربي بوست
تم النشر: 2016/12/22 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/12/22 الساعة 01:44 بتوقيت غرينتش

إذا كان التاريخ قبل أن يصبح علماً مجرد حكاية تأتي على لسان صاحبها، وإذا كان السرد هو الكيفية التي تروى بها القصة وطريقة عرض الحوادث في القصة، أو نقل حادثة من صورتها الواقعة في الواقع إلى صورة لغوية، فهل يصح هذا التعريف على كتابة التاريخ في شكل مروية سردية؟ وهل من علاقة بين التاريخ والرواية؟

أطلق عليها العثمانيون "كيزيل ألما"، أي: التفاحة الحمراء، تعبيراً على أنها المدينة الحلم التي يتوق المسلمون للوصول إليها.

وقال نابليون في مذكراته إنه حاول غير مرة أن يتفق مع روسيا القيصرية على اقتسام الإمبراطورية العثمانية، غير أن مدينة القسطنطينية كانت العقبة الكؤود في وجه هذا الاتفاق، فروسيا كانت تصر على امتلاك هذه المدينة، ونابليون يصر على عدم تسليمهم هذه المدينة، فهي بنظره تساوي إمبراطورية، وهي مفتاح العالم كله، فهو القائل إن الدنيا لو كانت مملكة لكانت القسطنطينية عاصمة لها، إنها العاصمة الوحيدة في العالم على جميع المستويات: السياسية، والدينية، والعسكرية، والبحرية، والاقتصادية، والثقافية، والفنية، إنها واحدة من أعرق المدن وأهمّها في تاريخ الشرق في العصور الوسطى، فقد كانت تعتبر معبر أوروبا إلى المشرق العربي في تلك الفترة، حينما كانت تُسمّى بيزنطة، ويذكر الروائي التركي أورهان باموق في كتابه الذي يحمل اسم "إسطنبول – المدينة والذكريات"، أن اسمها محرّف من قسطنيطنبول وقد خفف الجزء الأول من الاسم، وللمدينة عدد كبير من الأسماء مثل بيزنطة، نيا روما، الأستانة، درعلية، دار الخلافة العلية، دار السعادة، باب السعادة، وعين العالم ومأوى الكون، وسماها السلاف تساريغراد ورومية الكبرى وروما الجديدة ومدينة الحج ومدينة القديسين.

وفي كتابه "إعادة استكشاف العثمانيين"، يقول المؤرخ التركي ايلبير أورتايلي عن فتح القسطنطينية: هذا الشاب اليافع الذي قام بحصار عاصمة مدينة كبرى كانت تعتبر في ذلك الزمن حاضرة العالم، وكان يشار إليها فقط بكلمة "بوليس"، لقد حقق انتصاراً أكسبه مجداً في عالم لم يكن فيه أماكن أخرى تستحق أن تدعى مدناً.. قلة من المراكز المدنية في الشرق الأوسط تشبهها (يقصد القسطنطينية قبل الفتح)، دمشق بدأت تفقد أفضليتها ضمن العالم الإسلامي وبغداد والقاهرة الناشئة ومدن في إيران البعيدة مثل أصفهان ونيسابور، ولكن في قارة أوروبا لم يكن هناك أي مدينة حقيقية أكبر من المكان الذي يدعى حينئذ القسطنطينية، ولفتح هذه المدينة العظيمة أمر السلطان ببناء حصن روملي على الضفة الأوروبية من البوسفور، الذي انتهى بناؤه في غضون أربعة أشهر، وبدأ حصار القسطنطينية بدك أسوارها التي كانت تُعتبر آنذاك القلعة الأعظم.

ويبدو أن الأساطير والمعتقدات التي كانت سائدة خلال تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، أو بالأحرى الإمبراطورية الرومانية المسيحية، لم تمُت بسهولة، فحتى اللحظات الأخيرة (يقصد اللحظات الأخيرة من الحصار)، كان الناس يتوقعون أن مريم العذراء ستنقذهم، وفي الليلة الأخيرة أعلن الإمبراطور البيزنطي في قداس أقيم في "آيا صوفيا" أمام المحتشدين، أن مريم العذراء ستظهر، وحتى عند دخول الأتراك إلى المدينة، كان الناس يتوقعون أن الملائكة ستأتي عبر الأسوار وتطرد الأتراك خارجاً، غير أن مركز المسيحية هذا الذي كان العالم بأسره يُبجله لمدة تزيد عن ألف عام كان قد وقع في أيدي قوة جديدة.

وبعد فتح القسطنطينية وجد الفاتح نفسه أمام مدينة مدمرة كان لا بد من إعادة بناء المدينة، فماذا فعل لتحقيق ذلك؟ أمر بجلب عدد كبير من الأتراك المسلمين والمسيحيين من وسط الأناضول، الذي كان يعتبر الخزّان البشري إلى إسطنبول.

إن الاستيلاء على القسطنطينية يعد واحداً من أعظم حوادث التاريخ في العالم؛ لأن سقوطها ترتب عليه عدة نتائج مهمة، فقبل فتح القسطنطينية لم تكن السلطنة العثمانية سلطنة بمعنى الكلمة، ولم يبدأ الوعي الإمبراطوري بالتجذر في المجتمع العثماني إلا بعد نجاح العثمانيين في فتح هذه المدينة، والذي مثّل نهاية العصور الوسطى، بعد أن اتخذ منها السلطان محمد الفاتح عاصمة جديدة له، بدأ العثمانيون في تدشين مرحلة جديدة، والتحول من مرحلة الدولة إلى مرحلة الإمبراطورية، بعد أن أصبحت ممتلكاتهم تحتل مساحة جغرافية واسعة، بعد أن تمكن العثمانيون من السيطرة على مضيق البوسفور، والربط بين الأراضي العثمانية في آسيا الصغرى والقارة الأوروبية، وسيطرتهم على طرق التجارة في البحر الأسود، وتنامي القوة البحرية العثمانية؛ حيث بدأ الاهتمام ببناء الأساطيل لمساعدة القوات البرية في مرحلة الفتوحات الجديدة.

أما على صعيد الغرب، فقد اهتزت أوروبا المسيحية بعد سقوط القسطنطينية في أيدي العثمانيين؛ لأنها كانت تعتبر الدرع الواقية والحصن الشرقي المنيع الذي قام بحماية القارة الأوروبية من أخطار الغزاة الآسيويين في العصور الوسطى، فضلاً عن كونها حامية المسيحية الأوروبية الأرثوذكسية، فقد تجلى صدى سقوط القسطنطينية على البابوية الكاثوليكية والغرب الأوروبي، وعلى النشاط التجاري للأساطيل الأوروبية، وعلى موقف المسيحية الأرثوذكسية.

ودعا البابا نيقولا الخامس، في مايو/أيار 1453م، إلى ضرورة قيام حملة صليبية جديدة لاستعادة المدينة من العثمانيين، ولكن الخوف من استثارة عداء العثمانيين من جديد لم تتحمس الدول الأوروبية لهذه الفكرة، فلم تخرج هذه الدعوة إلى حيز التنفيذ.

ثم تولى البابا كالستوس الثالث زمام الإدارة البابوية، وأعاد فرض ضريبة العُشر من أجل تمويل أسطول بحري لاستعادة مدينة القسطنطينية، لكن ذلك الأسطول لم ينجح سوى في الحصول على بعض الجزر في بحر إيجة التي سرعان ما استردها العثمانيون.

بعد نجاح العسكرية العثمانية في اجتياح القسطنطينية الحصينة عام 1453، بدأت الجيوش الأوروبية تدرك التكتيكات الجديدة في فن الحصار، ما أدى بها إلى دراسة فنون الحرب العثمانية، وكيفية محاصرة واقتحام المدن، وأدى إعجابهم بالجنود الانكشارية إلى محاولة تكوين فرق عسكرية مشابهة، كما وجهت الجيوش الأوروبية أيضاً اهتمامها نحو ضرورة الاستفادة من الدرس العثماني.

كما أننا لن نغفل الأثر الإيجابي الذي أحدثه سقوط القسطنطينية في الفكر الغربي في نهايات العصور الوسطى وبدايات العصر الحديث؛ لأن التهديد المستمر من قِبل العثمانيين للقسطنطينية، ثم اقتحامها، دفع بالكثير من رجال الفكر والعلم والثقافة في جامعة القسطنطينية إلى الهرب باتجاه إيطاليا، وحمل هؤلاء الأدباء والعلماء والفلاسفة معهم ذخائر الكتب، ومفاتيح العلم اليوناني، الأمر الذي أسهم في إثراء الفكر الغربي، وزاد من نزعة التنوير فيه، وساعد في إعادة ربطه بروافد الحضارة اليونانية القديمة، وأدى ذلك في النهاية لأن تتبوّأ إيطاليا مكانتها كوريثة للثقافة البيزنطية والفكر اليوناني، وكذلك إلى بزوغ فجر النهضة الأوروبية الحديثة، كما أن سقوط القسطنطينية بمثابة سقوط الحاجز بين الحضارتين الأوروبية والإسلامية، أصبحت الأولى وجهاً لوجه بعاداتها وتقاليدها.

أما عن الآثار الاقتصادية المباشرة للفتح العثماني للقسطنطينية في النشاط الاقتصادي والتنافس التجاري، فقد سعت الجمهوريات التجارية الإيطالية إلى كسب ود السلطان العثماني، والحصول على امتيازات تجارية في العاصمة العثمانية الجديدة.

وبُعَيد الفتح مباشرة، نجح تجار مدينة جنوا في الحصول على اتفاقية تجارية مهمة من السلطان محمد الفاتح في يونيو/حزيران 1453، منحهم فيها امتيازاتهم السابقة في غلاطة، كما نجحت البندقية في أبريل/نيسان 1454 في الحصول على اتفاقية مشابهة من السلطان الفاتح، وأدركت جمهورية فلورنسا أنه لا بد لها من الحصول على موطئ قدم في العاصمة العثمانية الجديدة، فتحيَّنت الفرصة لإقامة علاقات تجارية قوية مع العثمانيين وأرسلت أسطولاً تجارياً إلى القسطنطينية، كما استقبلت سفارة عثمانية بهدف إقامة علاقات ودية.

كما أن سقوط القسطنطينية في يد العثمانيين أدى إلى زيادة الأساطيل البحرية العثمانية في مياه البحر المتوسط، الأمر الذي أثار خشية دول غرب أوروبا، بخاصة البرتغال وإسبانيا، على سفنها وتجارتها، ما دفعها إلى محاولة البحث بشكل جدي عن طرق بحرية وملاحية جديدة، دون المرور بالمياه التي تخضع للسيادة الإسلامية.

وبدأت آنذاك حركة الكشوف الجغرافية الأوروبية، عبر المرور خلف إفريقيا الغربية والجنوبية.
أخيراً.. وكما قال الكاتب الإنكليزي فيليب مانسيل، أستاذ التاريخ المعاصر: "القسطنطينية.. إنها المدينة التي اشتهاها العالم".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد