أفتح خزانة ملابسي، أختار ما أريد بعد نقاشات ومشاورات مع نفسي، أخرج بنفس النتيجة دائماً، أختار حجاباً يتناسب مع ما اخترت، أنظر في المرآة، أُلقي نظرة على مواد التجميل والعطور، نظرة مطوَّلة تجتاحها آلاف الأفكار والتناقضات، أختار في النهاية كُحلاً أسود يغطي عينيَّ المتعبتين من السهر مع طفلي، أرمقني بنظرة رضا.. وأخرج من المنزل.
أقيم في مدينة أوروبية (لندن)؛ حيث العيون الزرقاء والشعر الأشقر، والفساتين القصيرة التي لا تهاب البرد القارس ولا قطرات المطر؛ لأكون صادقة: لسن جميلات بقدر ما هنَّ لافتات للنظر، بابتساماتهن وعفويتهن التي تظهر جمالهن الحقيقي.. وأخريات عربيات أعرفهن وأميزهن مهما حاولن تغيير لون خصلات الشعر أو وضع العدسات اللاصقة، لا أعلم هل يحاولن عيش نفس الدور ونفس الحياة، وألا يشعرن بالاختلاف؟ أم أنها قناعات شخصية لا علاقة لها بالموضوع؟
هي تلك المرأة التي تحضر مناسبات مختلفة تكون المحجبة الوحيدة فيها غالباً، تراهُنَّ يرتدين ما يبرز جمالهن بوضوح، ولأنها امرأة مثلهن، فهي تفهم تماماً السبب وراء كل تلك التفاصيل؛ اختيار التصميم الفلاني، الكعب الفلاني، واللون الفلاني، حتى وإن كان الموضوع عفوياً، فأنوثة المرأة تتجلَّى في عفويتها وحُبها لإبراز نفسها، والإحساس بقوة حضورها وتأثيرها.
تصارع نفسها بين شروط الحجاب التي اختلف عليها العلماء، وبين حبها لارتداء نوع معين من الملابس ووضع مواد التجميل والإكسسوارات. إنها تعي تماماً أنها امرأة حرة، تعي جيداً أن الله خلقها عقلاً وروحاً تعبده، وتكون خليفة له تؤدي رسالتها كابنة وزوجة وأُم ومربية، كامرأة ناجحة ومتميزة تحقق أهدافها وطموحاتها، تعلم أنها أكبر من قماش يوضَع على الرأس، وأغلى من فستان، وأرقى من كعب عالٍ.
لكن الصراع الذي تعيشه المرأة المحجبة أكبر مما تظنون، إنه الفكرة التي تراودها حين ترى امرأة أخرى جميلة غير محجبة: سأكون أجمل منها لو ارتديت مثلها، ورتبت شعري، ووضعت كل زينتي، صراع مع ملايين الأفكار المتناقضة التي تعيشها في كل مرة تحاول اقتناء شيء لها، إنه الإحساس الذي يملؤها حين ترى مجموعة من الأشخاص ينظرون إليها بشكل غريب؛ لأنها تختلف عنهم، إنه محاولة فرض شخصيتها وقدراتها أمام كل التحديات التي تواجهها بسبب قطعة القماش تلك.
إذاً لِمَ الحجاب؟ ولِمَ ما زالت مصرَّة على ارتدائه؟
سؤال طرحَته على نفسها مرات كثيرة، تحاول الوصول إلى السبب الحقيقي الذي يجعلها تتمسَّك أكثر بالحجاب، هل الحجاب فعلاً فرض من الله تعالى؟ هل ستدخل النار إن لَم ترتدي الحجاب؟ ألم تدخل بَغيُّ من بغايا إسرائيل الجنة؛ لأنها روت عطش كلب كاد يموت؟ هل كل أعمالها الصالحة وكل حسناتها وكل صدقاتها وصلواتها وصيامها وقيامها ومناسكها لا تعني شيئاً أمام قطعة قماش؟ هل فعلاً تلك القطعة أهم منها كإنسان يفكر ويقرر، يعمل وينجز، ويغيّر؟
لكن مهلاً.. بهذا المنطق نستطيع إلغاء أي حكم لا نريده، وأي جزء لا نستسيغه، بحجة أننا نفعل أشياء صالحة وحسنة بالموازاة مع تخلّينا عن ذلك الحكم المعين.
جميل جداً أن نسأل عن الأحكام الشرعية التي وضعها لنا الله عز وجل، واتباع سنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أن نفهم الأسباب التاريخية والثقافية وحتى السياسية التي كانت سبباً لقرارات كثيرة ومحطات مهمة في التاريخ الإسلامي، وفي حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى بعد وفاته، إلى يومنا هذا.
والحجاب جزء من تلك الأحكام التي تأثرت بالمعايير الثقافية والاجتماعية.. اختلطت بالتقاليد والعادات التي توارثناها، وتمسكنا بها أكثر من تمسُّكنا بالأحكام الشرعية نفسها.
الحجاب كفريضة من الله -عز وجل- جاء ذكره في آيات محددة، شرحه العلماء وفسروا تفاصيله وشروطه، منهم مَن يحرم كشف الوجه، ومنهم من يحرم كشف اليدين، ومنهم من يجيز كشفهما معاً، وقد تختلف الظروف التي تولد فيها المرأة المسلمة في مختلف بقاع العالم؛ لكن هويتها كامرأة مسلمة، حقوقها وواجباتها، تكريمها وتشريفها، منزلتها وقيمتها، لن يستطيع أحد أن يختلف في تفسير ما جاء به القرآن الكريم، وما عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقام به ليبين فضل النساء ومنزلتهن في صناعة الأمم، وتربية جيل قائد ناجح مفكر ورائد.
ألا يجب أن نكفَّ عن الحديث كثيراً ومطولاً في هذا الموضوع؟ ألا يجب أن نناقش ما هو أهم وما هو أعمق؟ قطعة القماش هذه ليست محور حياتك ولا سبب فشلك أو نجاحك، إن الحجاب هويتك نعم، إنه شعار السلام الذي ترفعينه في كل مرة تخرجين فيها من منزلك، وأنت تبتسمين لهم، وأنت تساعدين مسنّاً لينزل من الحافلة، وأنت تحملين أغراض جارتك العجوز، وأنت تشرحين لطفلك معنى الاختلاف حين يسألك بصوت عالٍ عن الوشم الذي يضعه الشاب الذي يجلس بجانبه، وأنت تعيدين دفع مبلغ العصير الذي نسيت عاملة المتجر احتساب ثمنه بين الأغراض، وأنت تعطين دورك لليهودي الذي يحمل طفلته، وهي تبكي منزعجة من الانتظار، وأنت تستقبلين صديقاتك البوذيات والمسيحيات في منزلك، وتحضرين لهن أطيب المأكولات، ويلعب أطفالهن رفقة أطفالك بحب وانسجام.
إنها الرسالة التي تقدمينها لكل أولئك في كل مرة، تصححين لهم ما يسمعونه وما يتلقونه عبر القنوات الإخبارية والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، تخبرينهم بأنك مسلمة لم ترتدي الحجاب لأنَّ زوجها أو والدها هو من أجبرها.. ولم تتزوج إكراهاً.. ولم تتوقف عن تحقيق أحلامها، تتحدث العربية والفرنسية والإنكليزية.
تحب الموسيقى والأفلام الكوميدية والرومانسية ككل النساء، تتعب من التنظيف، ولا تتعب من ساعات التسوق المستمرة، تحب الألوان والفساتين وكل أدوات الزينة مثلهن تماماً، لكنك مسلمة تعبّر عن هويتها بالحجاب، اختارته حباً وتقديراً وعزة، اختارته لأنها فخورة جداً بانتمائها لذلك الدين العظيم، مهما حاولوا تشويهه وربطه بالعنف والقتل والدم والدمار، سترتدي حجابها وتتفوق، وتنجح في تغيير مجتمعها ومحيطها إلى الأفضل، سواء كانت معلمة أو طبيبة أو مهندسة أو عاملة استقبال، سواء كانت طويلة أم قصيرة، بيضاء أو سمراء، غنية أو فقيرة، لا يهم كل ذلك؛ لأن التفوق أكبر وسيلة لتعبّري عن رسالتك وتجبري من يخاطبك أو يسمع عنكِ بأن يحترمك ويحترم اختياراتك، لا تكوني تلك المرأة الضعيفة التي تنتظر مَن يخبرها بأنها تصلح لأن تكون شيئاً أفضل في هذا العالم، لِمَ انتظار شخص آخر يخبركِ بما أنتِ عليه فعلاً؟
التمرد الحاصل مؤخراً حول الحجاب ما هو إلا نتيجة القمع الفكري الذي نحاصر به فتياتنا، دعهن يفكرن بصوت عالٍ، لا تستخفوا بأسئلتهن ولا تستهينوا بقراراتهن، ولا تُشعروهن بأن غير المحجبات أجمل أو أفضل منهن، ولا تشعروا غير المحجبات بأن المحجبات أتقى وأطهر منهن، لا نعلم مَن الأفضل عند الله، ولا نملك الحق في أن نحكم على إحداهن.
إن كنتِ محجبة فافتخري بحجابك، وأظهري قوتك من خلاله، ولا تسمحي لأي كان بأن يصادر حقك في أن تكوني حرة، لكن صدِّقيني: الحرية لا تعني أبداً نزع قطعة قماش، بل العكس، إنها في تحقيق أهدافك دون أن تتنازلي عما أنت مؤمنة به، وأن لا تسمحي لهم بأن يغيروا من اختياراتك لمجرد إرضائهم.. اعتزّي بنفسك وبقراراتك التي تؤمنين بها.. لكِ كل الحق في ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.