لا يكتمل انقلاب على دولة أنتجت هذا الفيلم!

أما آخر كلمات الفيلم فرسالة "إسماعيل إكينجي"، بصوته عبر صور تعرضها الشاشة من صباه، تؤكد أن الأمر يتعدى كونه كاتباً عاش ليأكل وأسرته من نتاج قلمه إلى شرف مقاومة الظلم والاستبداد، ويا له من شرف؟ لأنه لا يرضى أن يرى أهله معذبين محني الرأس، ولذلك فإن روحه ستظل تحرسهم مهما طال زمن الانقلابات.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/30 الساعة 09:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/30 الساعة 09:48 بتوقيت غرينتش

صوت دافئ حنون، لامرأة "كردية" في عقد الخمسينات من القرن الماضي تهتف بصوت ممطوط وسط إيقاع موسيقى تصويرية شجي باسم:
– "إسماعيل"..!

فيهرع طفل قصير القامة إليها، بملابسها الفقيرة، وثيابه القصيرة، وسط طبيعة خلابة كامتداد دعوات الروح لجميع البشرية بالخير. أما اختيار اسم "إسماعيل" فاختيار أكثر من مُوفق لكاتبة السيناريو التركية "سيدا ألتايلي تورغوتلو" ذات الحس المتمكن من التقاط التفاصيل الدقيقة، مع إخراج مناسب لـ"ياسين أوصلو"، وقد تركا لنا لوحة فنية أكثر من جيدة إلا قليلاً.

"إسماعيل إكنجي"، أو الممثل التركي "جانسيل ألتشين" وفيلم "قصتنا" داعبا الروح بقوة ليلة محاولة الانقلاب في تركيا، ولم تكن دلائل الفشل قد ظهرت بعد؛ وكان العقل يخشى حتى الساعة الواحدة وبضع دقائق من بعد منتصف ليل 16 من يوليو/تموز الماضي، أن يتم الانقلاب.. قبل أن يتمكن الرئيس "رجب طيب أردوغان" من الظهور بمطار "أتاتورك" في إسطنبول، وتهدر الجماهير في الشوارع أكثر بأنقرة، وعموم البلاد تقريباً.

لحظتها التجأتُ إلى رب العزة تعالى، وقالت له في همس مختلط باعتذار عن تقصير صاحب الكلمات في حقه تعالى أولاً، وخلافات من بعد في الصف، وإن نأيتْ عنها، لا تسر ولا تخفى على أحد، لحظتها هتفت الروح على الحدود المسموح لها بالدنو إليها من باب الكريم: يا رب ليس لأجل هؤلاء الصغار في دار تُنسب مؤقتاً.. لي، وهي من فضلك، وإنما لأجل مئات بل آلاف من أطفال جاليات، بل لأجل الملايين من أطفال الأتراك ستُعاد عليهم سيرة بالغة "الوقاحة" من الشر وهي لا ترضيك، سبحانك.

هنا جاء العالم الموازي، قطع مماثلة للواقع، يرحم الله بها من الحقيقة لما تزداد حلكة ليلها، ومتاعبها، وتستصعب النفس مرور اللحظات، فتضغط على الروح بأنها تريد الارتياح، ولو قليلاً، فيفتح العقل باباً سلسلاً بل من سلسبيل، للحظات يدخلنا الشعور فيها قصراً مسحوراً من أمنيات؛ لها سند من العقل والمنطق، والبعد عن التعجل في قراءة الواقع و"قطف" الثمار المتعجلة من الأحكام وفقاً لما يظهر منها، وهو غالباً محير للعقل، الجيش، في الحالة التركية، في تلك الليلة، احتل الطرقات؛ الدبابات تقصف البرلمان؛ ويضرب مبنى القوات الخاصة؛ وهل تصمد الأجساد إذا كانت المباني تكاد تنهار؟
وقت تداخل الخطوب "تئن" الروح من القسوة، ويهدهد العقل الواقع في "مرآة" الأخيرة، "يهمس" بها:

– ما كان الله ليدع نوره ينطفئ في الأرض.. مع أخطاء شابت التجربة التركية، وستظل حتى لو نجا حزب "العدالة والتنمية" من الانقلاب، وبعض أخطائه ضخم، لا لشيء إلا لأنه نتاج "بشري" حزب "التنمية والعدالة" يحاول في إطار منظومة غير مُعينة، والقوى المُفترض أنها تريد الخير للعالم غير منظمة ولا حتى إيجابية، اللهم إلا مَن رحم الله!

في تلك اللحظات تذكرتُ فيلم "قصتنا" الذي تم إنتاجه في تركيا حزب "التنمية والعدالة" في مايو/أيار من العام الماضي، واصطحب الرئيس "أردوغان" زوجته لمشاهدته بسينما في "أوسكودار" بإسطنبول ليُصرح بعدها لكاميرات التلفزيون:

"حقبة الثمانينات، وتلك السجون والآلام مَنْ منا يستطيع أن ينساها؟.. كلنا نذكرها". في إشارة إلى رسالة الفيلم بأن على الأتراك ألا يعيدوا التجربة.. مهما حدث، وإنهم إذ يشاهدون المسار الديمقراطي كيف أوصله لبوادر الرخاء وما هو أكثر لا ينبغي تكرار ما حدث!

وكانت فترة مشاهدة "أردوغان" للفيلم دقيقة تخص الإقبال على الانتخابات البرلمانية وملابساتها المعروفة. أما قصة الفيلم فتحكي عن "سمي" سيدنا "إسماعيل"، عليه السلام، الذبيح أو الشاب الكردي، في "قصتنا"، الذي ينادي بالعدالة التي تسع الجميع لوطن أحبه، وله على ترابه أسرة من زوجة وابن وابنة، ولكن الانقلاب العسكري في أغسطس/أب 1980 بقيادة الجنرال "كنعان أفرين" لم يرحمه، ولم يرحم محاولاته البسيطة العفوية التي لا تكلف أحداً شيئاً.. مواصلة رسالة أمه الراحلة، إذ يأخذ ابنه "أحمد"، أدى دوره "هالوك بيّير" إلى الغابة لا ليحضنه، كما فعلت جدته مع أبيه، بل ليعلمه قيادة الدراجة وألا يستصعب النهوض إذا ما سقط مرة!

ولكنه عند باب بيته حال عودته إليه، يجد الجند بسيارة الترحيلات بالاتهام "المُعلب" في كل دولة يستطيع العسكريون التملك منها، زعزعة وحدة البلاد، اتهام رخيص مصحوب بكتاب للمُؤلف.. يقول بعكس الأمر تماماً.

أجمل ما في الفيلم القطع السريع المتوازي بين أحداث حياة البطل وأيامه الأخيرة، وبين وسعي ابنه "أحمد"؛ الذي عمل ببيع الجرائد ليعول إخوته وأمه من بعد أبيه، لاحظ الجرائد ليحيي الموات في الوعي، ثم دفاعه عن قضية أبيه لما صار محامياً..!

مات "إسماعيل"، في قصتنا؛ من أثر رداءة الزنزانة الانفرادية، أما ابنه فقد أصر على رد الاعتبار إليه قائلاً للقاضي بقوة: "إن هذه الأحداث التي مرت بها تركيا لم تكسر كرامة أبي فقط وإنما كسرت كرامة بلدي، الاعتماد على التقارير القائمة على الوشايات والشائعات أدخلت بلدنا كلها الزنازين الباردة المظلمة، وإن لم يكن أبي قد عاش ليرى اللحظة الحالية فإن العدالة لا تغيب"..

وفي الزنزانة قبيل وفاته كان الأب قد صاح في الحرس: نحن لا نريد منكم العدل.. ولكن الإنسانية!

أما آخر كلمات الفيلم فرسالة "إسماعيل إكينجي"، بصوته عبر صور تعرضها الشاشة من صباه، تؤكد أن الأمر يتعدى كونه كاتباً عاش ليأكل وأسرته من نتاج قلمه إلى شرف مقاومة الظلم والاستبداد، ويا له من شرف؟ لأنه لا يرضى أن يرى أهله معذبين محني الرأس، ولذلك فإن روحه ستظل تحرسهم مهما طال زمن الانقلابات.

كيف يمكن أن ينجح انقلاب في بلد استطاع صناعة مثل هذا الفيلم؟ ولو أنصف صناع السينما في العالم لاحتفوا بالعمل، ولو بجعله في المرتبة الثانية لخطأ فيه.. جعل نهايته أقرب إلى التسجيلي من الروائي، ولكن الأمر لا يخص براعة العمل بحال من الأحوال، وتزيد من قيمة الفيلم كلمات أغنية الختام إذ يقول "إسماعيل" الراحل إلى زوجته: "إن روحه ستظل تحلق حولها في ليالي الإجازات إذ تسهر لتتذكره؛ وتحافظ على رسالته في نشر الخير في البشرية".

هون عليَّ كثيراً ليلة محاولة الانقلاب الفاشلة تذكر هذا العمل السينمائي. ورغم آلام تلك الليلة، التركية، وما بعدها، فإن هذا لا يُقدرُ بألم الروح بأن لها بلاداً عربية لا تعرف قيمة الحرية على النحو الأمثل، فلا تحسن الدفاع عن الأخيرة؛ ولا حتى فهم آلياتها..

ولكن بصيص أمل الروح يبقى.. ولا ينتصر انقلاب في بلد أنتج فيلماً مثل "قصتنا" وإن استقوى البعض فيه بالسلاح والجنرالات..

ولنا عودة، بإذن الله، إلى بلادنا، إن أراد تعالى، لتزهر أرواحنا بأعمال درامية مثل هذه.. وصدق الشاعر العربي القديم:

أعلّل النفس بالآمال أرقبها ** ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ

تحميل المزيد