4 سنوات مرت.. لم يكن الأمر سهلاً.. فجأة كل شيء تغير، الأحلام والطموحات، ما كان يسعدنا وما يحزننا تغير.. كل شيء اهتز سريعاً، مسلَّمات ورموز وتجارب باتت في وضع مرتبك، لا أحد يستطيع أن يجيبك.. هذه المرحلة وضعتنا جميعاً أمام حقيقة أنفسنا، حين انطفأ ذاك الضوء الساطع وانكشف كل شيء، شعرت لأول وهلة أن الكتب وما تحتويه من سطور صامته لا تملك الإجابة في زمن الأسئلة الصعبة.
حدثت خلخلة لمعنى "المعرفة":
ما الذي أود أن أعرفه؟
وما الذي عليّ أن أتعلمه؟
ولماذا نريد أن نتعلم؟
أسئلة وأسئلة وأسئلة والأرض تضيق من حولك، كل يوم يمر يحمل همًّا جديداً وتساؤلاً آخر.. حتى اهتديت شيئاً فشيئاً لنوع آخر من البحث.. توقفت عند قوله تعالى "اقرأ".. كيف توجه هذه الدعوة إلى أميٍّ لا يعرف القراءة والكتابة، إلا إذا كان المعنى أوسع من اللفظ؟
وكأنها دعوة للارتحال في عالم من المعاني مع الإنسان والكون.. الارتحال ذاتيًّا بحثاً عن الحقيقة هو في حد ذاته هو المعرفة، بعيداً عن تلقي إجابات جاهزة أو استدعاء أكليشهات تسكن العقل كالمخدر.
منذ عامين وحتى اليوم بدأت في سياحة مع نوع جديد من القراءة: قراءة الطبيعة والموسيقى والأحداث والتجارب نقلتني إلى عالم آخر صنع من التيه وعياً، ومن السؤال معرفة، ومن مخالطة الناس شغفاً للتعلم، وحباً أكثر لهذه الحياة رغم شظف العيش فيها.
عامين وحتى الآن أعتقد أنها باتت تجربة صالحة للحكي، عن:
1- قراءة الخبرات والتجارب.
2- قراءة الموسيقى.
3- قراءة الوجوه.
4- قراءة الألم.
5- قراءة الطبيعة.
وضعت لنفسي قائمة ببعض ممن أعرف من الأصدقاء أو الأساتذة أو المعارف والأقارب ممن مروا بتجارب وخبرات وبدأت في عقد لقاءات وحوارات ثنائية.
قبل اللقاء كنت جاهزة بأسئلتي واستفسارتي الخاصة، لم يكن الهدف البحث عن صحة أو خطأ أفكار ما بقدر ما هو اختبار ذاتي للوعي بالمرحلة التي نعيشها، وكيف استقبلها الآخرون، كنت أحاول فهم نفسي من خلال السياحة بين تجارب الواقع.
كان أجمل ما في التجربة أن الكل يتحدث بأريحية.. يسأل ويجيب ويستفسر، وأحاول الحديث والاستماع أكثر.. كنت ممن يتحدث كثيراً، إما في المحاضرات أو في الأنشطة المختلفة، كنت في حاجة أحياناً إلى الاستماع، الاستماع وفقط، تمارس الاستماع أكثر من الحديث، لأنك هنا تختبر الكثير من أفكارك وأسئلتك وإجاباتك حين تعرضها على غيرك.
فكنت كمن يقرأ واقعاً عمليًّا في مرحلة مليئة بالمواقف والأحداث:
أن تجلس مع أحدهم للتعلم بعيداً عن كونه معلماً، وبعيداً عن كونه يتحدث إليك بصفته محاضر أو معلم فهذا رائع لكلينا.
في الكثير من الحوارات اخترت بعض الأصدقاء ممن مروا بمشروعات وتحولات كالتي مررت بها، فكانت الأسئلة والنقاشات مفيدة في إطار الخروج بقناعات عن طبيعة ما يحدث اليوم، وما يسمى إعادة تشكيل المهمة، وكأنك تحاول فهم الواقع بعيون مختلفة، كلٌ يضيف زاوية جديدة لم تخطر على بالك.
الحوارات الثنائية بعيداً عن زحام النقاش والجدل، وما تحتويه من بعد اجتماعي ودي يضفي على هذه القراءة أجواء لطيفة مما يجعلك والمتحدث معك أكثر وضوحاً وصراحة، تعرفت على بعد جديد مع كل شخص قابلته، رأيت نفسي في مرآة غير التي اعتدت عليها.
بعض هؤلاء الأصدقاء أساتذة كبار، وبعضهم مجرد أصدقاء مقربين وبعضهم شخصيات لم ألتق بها كثيراً، بعضهم أصغر مني وبعضهم أكبر مني.. التنوع فعل بي الكثير.. والكثير.. التنوع في كل شيء وأكثر من تعلمت منهم البسطاء، ليس البسطاء ماديًّا أو اجتماعيًّا ولكن البسطاء في فهمهم للحياة.. وخاصة العجائز منهم، ممن ننعتهم أحياناً أنهم لا يفهمون واقعنا وليسوا في مستوى تفكيرنا.
رأيت في هذه التجربة أساتذة يقولون "لا نعلم، ليس لدي ما أستطيع قوله"، ببساطة شديدة، عرفت أنه ليس دائماً لكل سؤال إجابة حاضرة وليس عيباً ألا نمتلك الإجابات في التو واللحظة.
بت أقرأ الأوراق والكتب بعين أخرى وبشغف أوسع، لقد نقلتني هذه التجربة من ضيق صفحات الكتب إلى سعة عالم كبير.هذه التجربة جعلتني أرى العالم فسيحاً رغم ظلمته وضيق حاله، شعرت بأني أسافر مع كل شخص رغم أني لم أركب طائرة أو أعبر البحار.. كانت وما زالت رحلات ممتعة، شعرت أني أتعلم في مدارس كثيرة بسعادة غامرة.
"يُتبع"
اللوحة للفنانة سالي سمير، لمشاهدة مصدرها الأصلي اضغط هنا
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.