كان صعباً عليَّ أن أستوعب أنّي لن أرتاد المدرسة مجدداً مثل أصحابي، كما كان صعباً أن أقبل أنّي لن ألج إلى الجامعة مثل أقراني، أيّام صعبة حقيقة، خصوصاً في مجتمع لا يرحمُ بالمرّة، كثيراً ما تهرّبت من مجالس العائلة، وقطعت صلة الرّحم لكي لا أسمع ذلك السّؤال المزعج، والأصعب من هذا كلّه عندما تجدُ شاباً تفوقه بكثير، لكنّه يعامَل بشكل أحسن منك وينظر إليه بنظرة أكبر منه، ليس لأنه الأحسن ولكن لأن له "شهادة".
لا أزال أذكر تلك الليلة التي قال لي فيها صاحبي: "عندك الكرطونة هدر معايا!" – لو تمتلك شهادة يمكنك أن تتحدث إلى- ولو ناقشته في أبسط المسائل لما أجاب، ولطأطأ رأسه يقيناً، فقط ساعده القدر، ولم يتلقَ له بمثل ما تلقّى لي ولأمثالي، وللأسف، ليست هذه الفكرة السّائدة لدى العوام من النّاس، لكنّها اندرجت لدى من يحسبون على العلم والثقافة والفكر، وكأنهم لا يعلمون أن كثيراً ممّن يتبجون بشهاداتهم لم يحصلوا عليها إلا بغشٍّ قبيح أو شراء فظيع، بل يعلمون ولا يهمهم هذا، المهم أن تكون عندك "الشهادة"، نعم، ممكن اليوم تكون من أراذل القوم وأسافلهم، وتشتري "شهادة" غداً فتصبح من الملأ مع علية القوم، (أنا) أقرأ كثيراً، أتنقل من كتاب إلى آخر، أبحث عن هذه المسألة وأناقش ذلك الحُكم وأنام على مكتبي، وذلك الذي يحمل "شهادة" لا شيء من هذا يفعله، نوم وسهر، كَسَلُ وشَخر، ومع ذلك هو الأحسن، عجيبٌ أمرهم!
عندما أواجه هذا الواقع الأليم، يتلاشى من ذهني كلّ ما قرأته سابقاً من أن علمك هو ما تحفظه لا ما تكتبه وتسجّله، أذكر أنّي قرأت كلمةً لأحدهم يقول فيها: (علمك ما دخل معك المرحاض)، وإن: (العلم ما حصل في الصّدور، لا ما حفظ في السطور)، ربّما كان هذا في زمن المؤلفين أو من رووا عنهم، أما في زماننا فلا شيء من ذلك، والواقع خير شاهد، ولا يمكن تكذيبه، في حين يعاني أمثالي في صمت، يعاني أصحاب الشهادات في صراخ عقيم، مظاهرات ومسيرات، في مسرحيات الفرّ والكرّ اليومية، لم تدم فرحتهم طويلاً، جاءت السياسة الجديدة للبلد بما يسمّى بـ"المباراة" فعرّت أصحابنا وكشفت إخواننا..
كل من يدعي بما ليس فيه ** فضحته شواهد الامتحان
قرأت من قريب حواراً لـ"لازلو بوك"، رئيس قسم التوظيف في شركة غوغل العالمية يقول في جزء منه: "عندما تنظر إلى الأشخاص الذين لا يذهبون إلى الجامعة، ويشقون طريقهم في العالم بالاعتماد على أنفسهم، إن هؤلاء بشر استثنائيون. وعلينا أن نفعل كل ما بوسعنا للعثور عليهم"، وقد صدق وأحسن فيما قاله وفعله، وقد أثبتت الدراسات على أن الذين ينقطعون مبكراً من الدراسة النظامية يتفوقون ذكاءً ويزدادون إبداعا أكثر ممن واصلوا واستمروا في النظاميّة، واقرأوا "عظماء بلا مدارس" حتّى تصدّقوا هذا وتتيقنوا منه، ولا شكّ أن ذكاءهم هذا يلاقون من أجله ابتلاءات وامتحانات، أولها الانقطاع عن المألوف، والشذوذ عن المعروف، النماذج كثيرة والجِراح عميقة، لكن من رحم هذه الجراح تولد الهمة ويأتي النجاح، و"ربّ ضارّة نافعة"..
إن الذين يحسبون أنفسهم وطأوا الثريا لأنهم حصلوا على تلك الشهادات التي وهموا من خلالها أنهم أذكياء، هم مخطئون فعلاً، وهؤلاء زمانهم قد ولّى بلا شكّ، فلا مستقبل إلا للكادحين والباحثين وطلبة العلم المجدين، [أما الشهادة فما هي إلا ورقة مرور لخداع النّاس] وقد كُشفت، فأدركوا أنفسكم وجِدّوا في الطّلب وأخلصوا في المطلب
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.