ماذا حدث للقرية الأوروبية الساحرة بعد أن عرضت منازلها للبيع مقابل دولار واحد؟

عربي بوست
تم النشر: 2019/01/27 الساعة 14:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/01/27 الساعة 15:12 بتوقيت غرينتش

أسدل الظلام ستاره على بلدة سامبوكا دي سيشيليا الصغيرة في جزيرة صقلية الإيطالية، حيث أغلقت مكاتب مجلس البلدة أبوابها في كورسو أومبيرتو منذ أكثر من 3 ساعات. ومع ذلك يستمر رنين الهواتف في التصاعد، ساعة تلو الأخرى.

يقول نائب رئيس البلدية المُرهق، جوزيبي كاشوبو وفق صحيفة The Guardian البريطانية: "نستقبل مكالمات من سيدني ولندن ونيويورك". إذ بعد أسبوع من إعلان المدينة أنها ستطرح منازل مهجورة للبيع مقابل يورو واحد (دولار واحد تقريباً) للمنزل، تلقّى كاشابو طلبات الحصول على معلومات من جميع أنحاء العالم. وبحلول يوم الأربعاء 23 ديسمبر/كانون الثاني من الأسبوع الماضي، تلقى المجلس أكثر من 300 مكالمة و 94 ألف رسالة بريد إلكتروني. وأسرع العديد من المشترين المحتملين، الذين لا يريدون تفويت الفرصة، إلى حجز تذكرة في أول طائرة متجهة إلى باليرمو.

بيت في أوروبا مقابل دولار واحد

الأمر ليس من باب الدعاية ولا المزاح.. الحكومة الإيطالية تمنحك بيتاً في أوروبا مقابل دولار واحد فقط!

Gepostet von ‎عربي بوست‎ am Montag, 21. Januar 2019

تستقر سامبوكا داخل محمية طبيعية، وتحيط بها الغابات والجبال، وتبعد حوالي ساعة بالسيارة من باليرمو، عاصمة صقلية.

وفي قاعة الانتظار محدودة المساحة في مبنى البلدية، لا يوجد ما يكفي من المقاعد لاستيعاب عشرات الزائرين الذين أتوا من أماكن نائية مثل بنما ولندن وبوسطن ودبي لوضع أيديهم على أحد هذه المنازل الشهيرة مقابل ما يساوي تكلفة كوب من قهوة الإسبريسو. كانوا ينتظرون كاشوبو بلهفة ليصطحبهم في جولة إرشادية إلى المنازل القديمة المعروضة للبيع.

وهو مشهد مثير لفرانكو لو فيكيو البالغ من العمر 63 عاماً. فقد هرع من منزله في حي ساراسينو القريب وهو يرتدي خفاً بدافع الفضول لرؤية ما تدور حوله تلك الثرثرة. كان يقف وهو فاغر فاه في دهشة، متطلعاً إلى طابور طويل من الأجانب الذين جاؤوا لرؤية المنازل المعروضة للبيع.

إذ مضى وقت طويل على آخر تجمع لعدد كبير من الناس شهدته شوارع سامبوكا: التي كانت  يوماً مدينة مزدحمة يبلغ عدد سكانها 9 آلاف نسمة، أصبح الآن حوالي 5 آلاف نسمة. وذلك لأن السكان كانوا قد بدأوا يهجرونها تدريجياً بحثاً عن عمل في أماكن أخرى، مثلما يحدث في العديد من القرى الصغيرة الأخرى في جنوب إيطاليا.

يقول لو فيكيو الذي كان يعمل معلماً للغة الفرنسية: "بدأ التدهور عندما تحول القطاع الزراعي إلى التصنيع، وعندما حلت الآلات محل الأيدي العاملة البشرية وأجبرت العديد من الفلاحين على ترك حقولهم. وكأن ذلك لم يكن كافياً، ضرب زلزال البلدة وبدأت المزيد من العائلات في هجر منازلها".

في يناير/كانون الثاني عام 1968، اهتزت الأرض في وادي بليش، جنوب غرب صقلية. كان الزلزال الذي بلغت قوته 6.1 درجة على مقياس ريختر واحداً من أقوى الزلازل التي ضربت إيطاليا، وأسفر عن مقتل 231 شخصاً وإصابة أكثر من ألف شخص وترك مائة ألف شخص بلا مأوى. وسُويت أربع بلدات عن آخرها بالأرض، بينما تعرضت بلدات أخرى، مثل سامبوكا، لأضرار فادحة. وقد لحق ضرر بالغ بالكنيسة الرئيسية في المدينة، شيزا مادري، التي بنيت حوالي عام 1420 على جزء من قلعة زابوت العربية القديمة في أعرق جزء من البلدة، اضطرهم إلى إغلاقها.

وتعكس قصة عائلة لو فيكيو تاريخ سامبوكا والاتجاه إلى الهجرة الذي يهدد بقاءها. عام 1955، اتجه جد فرانكو إلى الولايات المتحدة بحثاً عن عمل. وعام 1957، انتقل والده إلى فنزويلا. بينما في عام 1963، رحل فرانكو نفسه إلى شمال إيطاليا، وتستقر ابنته الآن في أستراليا. وعاد فرانكو إلى سامبوكا قبل ثلاث سنوات. ويقول: "صدمتني مشاهد الطرق المهجورة والصمت في مكان كان يعج  بأصوات آلاف الأشخاص في الساحات. أصبحت سامبوكا، مدينتي سامبوكا التي ألفتها، تشبه مقبرة للموتى الأحياء".

وفي محاولة لإحياء المدينة، تبنى رئيس البلدية ليو تشاتشو ونائبه، كاشوبو، استراتيجية أصبحت شائعة في الجنوب: بيع، أو عملياً تسليم المنازل المهجورة لأي شخص يريد سكناها. وحاولت بلدات أخرى تنفيذ الاستراتيجية نفسها، مثل بلدة غانجي في شمال صقلية، وساليمي في الغرب بالقرب من مارسالا، وأوللولاي في سردينيا. ويبلغ السعر الرمزي للمنزل يورو واحداً (وهناك اتجاه آخر هو تسهيل تحويل المنازل المهجورة إلى "فنادق مكونة من عدة مبان").

يقول كاشوبو: "يعتقد بعض الناس أن هذا كل ما يتطلبه الأمر -ما يساوي تكلفة كوب من القهوة- ولكنهم مخطئون. إذ يُباع المنزل في مزاد ويبدأ بيورو واحد. وإذا لم يعرض المشتركون سعراً أعلى، فهذا صحيح، سيُباع المنزل بسعر قطعة كرواسون".

مئات المنازل وآلاف الزبائن

في الوقت الحالي، هناك 17 منزلاً مملوكاً للمجلس ومعروضاً للبيع في سامبوكا. وسيُضاف إليها 15 منزلاً آخر قريباً. وهناك 400 منزل آخر ملكية خاصة قد تُعرض للبيع لأنها هُجرت. ويعود تاريخ معظم المنازل إلى منتصف القرن التاسع عشر؛ وقد تضرر العديد منها في الزلزال وهُجرت بعدها مباشرة. كان الزمن يبدو متوقفاً في تلك المنازل. إذ كان هناك تقويم جداري في أحدها المكون من طابقين، والذي كان ملكاً لأحد ضباط الشرطة المحليين، ويشير إلى تاريخ يوليو/تموز 1967.

يغادر بعض الزائرين المنازل وهم في حالة إحباط. بينما ترتسم ابتسامة على شفاه البعض الآخر. يقول نيك، الذي يعمل في تطوير العقارات ويبلغ من العمر 46 عاماً من لندن، ولم يرغب في أن يُنشر لقب عائلته: "هناك الكثير من الإمكانات في هذه المنازل". كان في مطار كييف، في انتظار الرحلة المتجهة إلى لندن، عندما قرأ مقالاً عن بيع المنازل مقابل يورو واحد في مدينة صقلية المبهجة. وقال: "لم أفكر كثيراً. غمزت لزوجتي ووافقَت. وغادرنا طابور المسافرين إلى لندن وركضنا لأول مكتب  تذاكر لشراء تذكرة سفر إلى باليرمو".

ولم يستطع الزوجان البولنديان أورسولا وماتشي كوجيماسكا مقاومة الأمر أيضاً. إذ أنهما يعيشان الآن في بوسطن، وجاءا إلى سامبوكا على أمل شراء منزل رومانسي بعيداً عن المدينة وضجيجها. وجاءت سمر تشودري، وهي أحد المطورين العقاريين كذلك، من بنما لعرض شراء عدة منازل في سامبوكا لمجموعة من المستثمرين. وجاءت كارولين أوهار، وهي محامية بريطانية، من دبي، وجاء عمار الأنصاري من الإمارات العربية المتحدة. ويقول إن العمارة والثقافة العربية في صقلية سحرتاه.

كان فرانكو لو فيكيو يتطلع إليهم بفضول. لقد رحب شعب سامبوكا بخطة عمدة المادة بحرارة، إذ اعتبروها عملاً شجاعاً، وهي محاولة أخيرة يائسة لعلاج سامبوكا من مرضها العضال.

لكن لا يشعر الجميع بالتفاؤل. إذ يعتقد البعض أنه لا توجد طريقة يمكن من خلالها إنقاذ سامبوكا من الانهيار الذي كتبه التاريخ على البلدات الصغيرة في جنوب إيطاليا. وكاترينا التي تبلغ من العمر 50 عاماً أحدهم. أبدت كاترينا ندمها لعودتها إلى صقلية قادمة من سويسرا قبل ثلاث سنوات، إذ تركت وظيفتها التي كانت تتقاضى منها راتباً شهرياً يبلغ 3563.86 دولار. تقف أمام مقهاها في كورسو أومبيرتو المهجورة، وهي تشعل سيجارة وتتأمل شوارع سامبوكا. تقول: "ما زلت أجهل سبب عودتي للعمل في حانة مهجورة أضطر لإغلاقها مبكراً بساعتين لأنها فارغة تماماً. هل ستساعد المنازل المعروضة للبيع مقابل يورو واحد هذه المدينة؟ لست متأكدة تماماً من ذلك".

وبينما كان المشترون المحتملون يبحثون عن ملجأ يقيهم المطر، لا يزال الأمل في استعادة بهاء كنيسة شيزا مادري قائماً. إذ أعادت الكنيسة فتح أبوابها الأسبوع الماضي لأول مرة منذ وقوع الزلزال، وجاء ذلك في الوقت المناسب تماماً ليراها الزوار الجدد ويبدوا إعجابهم بها. ويمثل ذلك الأمر استعارة ملائمة لسامبوكا: المدينة التي ترفض بعد 50 سنة أن تختفي وستفعل ما بوسعها لتبقى، حتى لو أدى بها الأمر إلى بيع منازلها بسعر كوب من القهوة.

علامات:
تحميل المزيد