«ذكريات زائفة» تسببت في سجن 300 بريء واتهام فتاة لأبيها باغتصابها لمدة 7 سنوات

أكد عالم النفس الأميركي مارك بندرغراست أنه كثيرا ما لعبت ذكريات زائفة دوراً لا يستهان به في التأثير سلباً على العديد من الأشخاص

عربي بوست
تم النشر: 2018/12/19 الساعة 11:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/12/19 الساعة 11:31 بتوقيت غرينتش
AI(Artificial Intelligence) concept.

منذ ما يقرب من 30 عاماً أنهى الأميركي ستيف تايتس مناوبته في مطعم مأكولات بحرية، واصطحب خطيبته غريتشن لعشاء رومانسي لمناقشة تحضيرات العرس، كان الفرح يغمرهما وهما يضعان اللمسات النهائية على حفل الزفاف الذي لن يتم أبداً.

ففي طريق العودة استوقفتهما الشرطة، لأن سيارة تايتس كانت تشبه مواصفات سيارة رجل مُبلغ عنه متهم باغتصاب فتاة على الطريق، واعتقلته الشرطة وأُحيل للتحقيق.

وفي قاعة المحكمة صعدت الضحية ديان لاثورب إلى منصة الشهادة، وقالت: "أنا متأكدة أنه الفاعل"، وللمفاجأة لم تكن تكذب، بل كانت على يقين بأنه الجاني.

صرخ تايتس على هيئة المحلفين، وانهارت خطيبته على الأرض، وبكت عائلته بشدة، لكنه أُخذ إلى السجن في النهاية، بعد أن هدأت ثورته اتصل بصحيفة محلية، وجذب اهتمام صحافي تحرٍّ، استطاع إيجاد الفاعل الحقيقي، ليُطلق سراح تايتس، ولكن بعد أن قضى عاماً بأكمله في السجن.

كان من المفترض أن تنتهي القصة عند هذا الحد؛ فقد أثبت تايتس براءته، إلا أن الأمور لم تَسر كذلك، فقد كان مملوءاً بالغضب تجاه النظام القانوني برّمته، خاصة بعد أن فقد وظيفته وخطيبته. ولهذا قرر أن يقاضي الشرطة، لكن قبل جَلسة المُحاكمة بأيام استيقظ صباحاً بسبب ألم شديد ومات بنوبة قلبية، متأثراً بمشاكله.

قصص أخرى مشابهة

بيث روثرو فرويد تعمل مُمرضةَ في وحدة علاج السرطان بأحد مستشفيات مدينة سبرينغفيلد بولاية أوهايو الأميركية، وفي سن التاسعة عشرة قررت الذهاب للشرطة للإبلاغ عن والدها القِس؛ إذ اتهمته بأنه اعتدى عليها جنسياً بانتظام طوال 7 سنوات، منذ كانت في السابعة وحتى بلغت الرابعة عشرة، حتى إنها حَملت مرتين وأجهضت طفليها.

لم تتوقف اتهامات بيث عند هذا الحد؛ إذ أكدت بأن أمها كانت على عِلم بكل ما يفعله والدها، وأحياناً كانت تشجعه على اغتصاب ابنته، وبناء على اتهامات بيث ألقت الشرطة القبض على القِس وأُودع السجن. وأثناء التحقيقات أثبتت التقارير الطبية أن بيث لا تزال عذراء، وخَرج والدها من السجن، ولكنه فقد عمله في الكنيسة، وتأثرت سُمعته.

وفي واقعة أخرى استُدعي دونالد طوموس، عالم النفس الأسترالي، من قِبل الشرطة بتهمة اغتصاب؛ إذ تطابقت مواصفاته إلى حد كبير مع المواصفات التي أدلت بها الضحية، التي أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أن طوموس هو من اغتصبها.

وبإجراء التحقيقات أثبت طوموس أنه كان في لقاء تلفزيوني مُباشر أثناء وقوع الجريمة، واتضح فيما بعد أن الضحية كانت تشاهده على شاشة التلفاز قبل وقوع الاغتصاب مباشرة، مما أحدث ارتباكاً في ذاكرتها.

في كتابه "ضحايا الذاكرة" أكد عالم النفس الأميركي مارك بندرغراست أن الذكريات الزائفة لعبت دوراً لا يستهان به في التأثير سلباً على الكثير من الأشخاص.

وفي محاضرتها على مِنصة تيد أكدت عالمة النفس المتخصصة في الذاكرة إليزابيث لوفتاس، أن هناك أكثر من 300 شخص بريء أُدينوا بجرائم لم يقترفوها؛ منهم من قضى 10 سنوات داخل السجن، ومنهم من أودع بين جدرانه لمدة تصل إلى 30 عاماً، حتى أثبت تحليل الحمض النووي (DNA) براءتهم.

كيف تعمل الذاكرة وكيف تتشكل الذكريات الزائفة داخل عقولنا؟

بحسب عالمة النفس إليزابيث لوفتاس؛ الذاكرة تعمل بشكل مشابه لآلة تسجيل الفيديو، إذ توثق وتخزن بدقة جميع الأحداث التي تعرضنا لها مسبقاً، ولكن الذاكرة تعمل بشكل أكثر تعقيداً وتخضع للكثير من العوامل والأشخاص.

في كتابها "وهم الذاكرة" أجرت عالمة النفس البريطانية جوليا شو تجربة علمية على مجموعة من المتطوعين، إذ تحدثت معهم حول ذكريات طفولتهم، وفي المرحلة الثانية من التجربة زارت أقارب هؤلاء الأشخاص وتحدثت معهم حول طفولة المتطوعين.

عادت شو إلى المتطوعين مرة أخرى، وأخبرتهم بذكريات كاذبة لم تحدث، وقالت لهم إنها جاءت على لسان أقربائهم والنتيجة كانت أن المتطوعين تذكروا تلك الذكريات التي لم تحدث وانغمسوا فيها، وأضافوا إليها أيضاً الكثير من التفاصيل المثيرة.

في عام 1986 لجأت الممرضة الأميركية نادين كول إلى طبيب نفسي، لمساعدتها في التعافي من أزمة تعرضت لها، ولكنها خرجت من جلسات العلاج، وهي تعتقد اعتقاداً جازماً أنها تعرضت في طفولتها للاعتداء الجنسي المستمر، وأنها مارست الجنس مع حيوانات وعَبدة شياطين.

واتضح فيما بعد أن الطبيب النفسي زرع تلك الذكريات الزائفة في عقل كول، باستخدام تقنيات وحِيل من علم النفس، ولكنها رفعت دعوى قضائية وحَصلت على تعويض عن سوء المعاملة الطبية الذي تعرضت له بلغت قيمته 2.4 مليون دولار.

عقلك يشبه ويكيبيديا

تتشكل الذكريات الزائفة داخل العَقل عبر ثغرات التفاصيل في الأحداث التي تعرضنا لها؛ في هذه الحالة يميل العقل إلى تصديق أشياء وتفاصيل لم تحدث لكي تكتمل الذكرى، وهو ما يسمح لتلك المُدخلات بالتسلل إلى عقولنا لملء الثغرات، وهذا هو أحد الأسباب التي دفعت ضحية الاغتصاب لاثورب إلى اتهام تايتس باغتصابها في المحكمة.

بحسب توصيف علم النفس؛ ذاكرة الإنسان تشبه موقع ويكيبيديا، إذ يمكنك أن تعرف من خلاله الكثير من المعلومات ولكنك في الوقت ذاته تستطيع تغيير تلك المعلومات في أي وقت، والحقيقة أنك لست الوحيد الذي يمكنه فعل ذلك، فالآخرون يمكنهم فعل ذلك فيك أيضاً.

فذاكرة الإنسان عبارة عن شبكة ممتدة عبر مناطق مختلفة من خلايا المخ التي تُحدّث باستمرار، وتتجسد وظيفتها في السماح للبشر بتعلم أشياء جديدة، ومن دون هذا التحديث المستمر لن يكون البشر قادرين على التعلم. وبالنسبة للذكريات الزائفة فعادة ماتُزرع في المخ من خلال التعاون بين خيال الشخص وذكرياته.

هل يُمكن أن يتحقق سيناريو فيلم inception في الواقع؟

إذا كنتم قد شاهدتم فيلم الخيال العلمي inception، فأنتم تذكرون كيف كان ليوناردو دي كابريو يتسلل خفية إلى عقول الأشخاص ويتحكم في أفكارهم؟ زرع الذكريات الزائفة يشبه عمل شخصية دي كابريو في الفيلم إلى حد كبير.

وعلى الرغم من أن أغلب الدراسات العلمية التي تناولت تلك الأطروحة تؤكد عدم إمكانية محو ذاكرة الإنسان بالكامل وزرع أخرى مكانها، إلا أن التطورات العلمية ما زالت مستمرة في ذلك المجال، مما يعني احتمالية ظهور نتائج جديدة في المستقبل.

في عام 2013 بدأت مجموعة من العلماء اليابانيين في تطوير آليات علمية حديثة لزرع ذكريات زائفة في عقول الأشخاص، وذلك بهدف تغيير طريقة تعايشهم مع العالم والطريقة التي يفكرون بها.

وأثناء حديثه أوضح الباحث الياباني تاكيو واتانابي، أن أبحاثه العلمية المتطورة على الذكريات الزائفة يمكن أن تؤدي في يوم من الأيام إلى علاجات جديدة للاضطرابات المعرفية، مثل الاكتئاب والتوحد، وذلك من خلال استفزاز الناس لإعادة تركيب أدمغتهم الخاصة. وعليه فإنه يأمل في مساعدة المرضى على تقوية الروابط الصحية ومحو العلاقات الأخرى غير المرغوب فيها.

وداخل أروقة معهد ماساتشيوستس للتقنية MIT أجرى الباحث الياباني سوسومو تونيغاوا، مع فريقه العلمي، مجموعة من التجارب العلمية على الفئران، واستطاعوا تعديل جميع الذكريات المخزنة في عقلها، وذلك عبر آلية جديدة تُسمى "البصريات-الوراثية"، هدفها التحكم في الخلايا العصبية الحية، وذلك من خلال استخدام ذبذبات الضوء.

ولكن تطبيق هذه التقنية على البشر يواجه العديد من المشكلات في الوقت الحالي؛ أهمها هو كيفية تركيز الضوء داخل الدماغ والتمكن من عبور السائل البصري. وحالياً يحاول بعض الباحثين التوصل إلى شعاع ذي طول موجي أقصر، مثل الأشعة تحت-الحمراء القادرة على اختراق العظام والوصول للخلايا.

وإذا تأمّلنا في الأمر، فسوف يتضح لنا مدى تعقيد عمل العقل البشري، والذاكرة الإنسانية، التي طالما اعتقدنا أننا يمكننا أن نثق بها كامل الثقة. لكن العلم يفاجئنا أحياناً بطَرحٍ مثل "الذاكرة الزائفة"، الذي قد يغير منظورنا تجاه ذاكرتنا وكيفية عملها.

علامات:
تحميل المزيد