رصد جسيم غامض يبشر باكتشاف نظرية فيزيائية شديدة الغرابة ربما لم تخطر ببال أحد

عربي بوست
تم النشر: 2018/11/09 الساعة 09:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/09 الساعة 09:21 بتوقيت غرينتش
رصد جسيم غامض

ساد قدرٌ كبيرٌ من الشعور بالإثارة عندما رُصد بوزون هيغز لأول مرة عام 2012، وهو اكتشاف حاز على جائزة نوبل للفيزياء عام 2013. وقد استكمل هذا الجسيم النظرية المسماة بالنموذج القياسي، وهي أفضل نظرية لدينا حالياً لفهم الطبيعة على مستوى الجسيمات، حسب موقع The Conversation.

جسيم هيغز أكد صحة معرفتنا الفيزيائية، لكن الجسيم الجديد يهدد ذلك كله

يظن العلماء الآن في مصادم الهدرونات الكبير (LHC) في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في جنيف بسويسرا أنّهم قد شاهدوا جُسَيماً جديداً، ظهر في صورة ارتفاع بالغ عند قيمة معينة من الطاقة في البيانات، رغم أنَّ النتائج لم تتأكد بعد. مرة أخرى، يشعر علماء فيزياء الجسيمات بإثارة بالغة، لكن يشوبها هذه المرة شعورٌ بالقلق. إذ على عكس جسيم هيغز، الذي أكد صحة فهمنا للواقع الفيزيائي، يبدو أن هذا الجسيم الجديد يهدد هذا الفهم.

وقد نُشرت النتيجة الجديدة، وتتألف من ارتفاع مفاجئ غامض في البيانات عند 28 غيغا إلكترون فولت (وحدة لقياس طاقة)، كمطبوعة سابقة للنشر على موقع ArXiv ولم تخضع بعد لمراجعة العلماء، ولكن هذا ليس إشكالاً كبيراً. إذ تخضع البيانات في مصادم الهادرونات الكبير LHC لإجراءات مراجعة داخلية شديدة الصرامة، ويمكننا أن نثق في أنَّ العلماء قد أجروا حساباتهم بشكل صحيح عندما ذكروا "أهمية الانحراف المعياري بمقدار 4.2". وهذا يعني أن احتمالية حدوث ارتفاع كبير بهذه الدرجة هي من قبيل الصدفة، أي أنه نشأ عن الضجيج العشوائي في البيانات وليس عن جسيم حقيقي، لا تتعدى 0.0013٪. وهي نسبة ضئيلة، 13 في المليون. لذا يبدو أنَّه لابد أن يكون شيئاً حقيقياً وليس ضجيجاً عشوائياً، ولكن لم يصل أحد إلى حقيقة حاسمة بعد.

ما ذو لو كان هذا الجسيم موجوداً بالفعل؟

لا يعني ذلك أنه ليس منسجماً مع نظرية النموذج القياسي (هي نظرية في فيزياء الجسيمات تقوم على توصيف لثلاث قوى أساسية في الطبيعة هي : القوى النووية الضعيفة والقوى النووية القوية والقوى الكهرومغناطيسية) فحسب؛ بل إنه ليس منسجماً معها بطريقة لم يتوقعها أحد.

نظرية جديدة قد لا يتوقعها أحد على الإطلاق

ومثلما مهدت نظرية الجاذبية التي اكتشفها نيوتن الطريق أمام نظرية النسبية العامة لأينشتاين، فستفسح نظرية النموذج القياسي المجال أمام نظرية أخرى لتحل محلها.

لكن لن يستعاض عنها بأي من النظريات المفضلة المرشحة لذلك التي اقترحت بالفعل لتكون أي منها امتداداً لنظرية النموذج القياسي: تشمل تلك النظريات نظرية التناظر الفائق ونظرية الأبعاد الإضافية والنظرية الموحدة العظمى.

تتحدث تلك النظريات بأجمعها عن جسيمات جديدة، ولكن لا يمتلك أيّ منها خصائص مثل تلك التي قد نكون رأيناها للتو. لابد أنها ستكون نظرية شديدة الغرابة لدرجة أنَّ أحداً لم يفكر فيها بعد.

لحسن الحظ، فإن تجربة مصادم الهدرونات LHC الكبيرة الأخرى، أي تجربة أطلس (ATLAS)، تحتوي على بعض البيانات المماثلة لتلك التجارب التي أجروها سابقاً. ولا يزال الفريق يقوم بتحليلها، وسيعلنون عن النتائج في الوقت المناسب. يقول المتشائمون على خلفية فشل التجارب السابقة إنِّهم لن يتوصلوا إلى شيء، وستُنسب هذه النتيجة إلى التقلبات الإحصائية. ولكن من المحتمل، مجرد احتمال، أنهم قد يشاهدون شيئاً ما. وحينئذٍ ستصبح الحياة بالنسبة للعلماء التجريبيين والمنظرين مليئة بالإثارة والتشويق على حين غرة.

ماذا تقول البيانات؟

وجدت العديد من التجارب في مصادم الهادرونات الكبير LHC، الذي يحطم حزماً من البروتونات (جسيمات في النواة الذرية) معاً، الدليل على وجود جسيمات جديدة وغريبة من خلال البحث عن تراكم غير مألوف للجسيمات المعروفة، مثل الفوتونات (جسيمات الضوء) أو الإلكترونات. ذلك لأنّ الجسيمات الثقيلة و "غير المرئية" مثل هيغز غالباً ما تكون غير مستقرة وتتفكك (تتحلل) إلى جزيئات أخف أسهل في الاكتشاف. وبالتالي يمكننا البحث عن هذه الجسيمات في البيانات التجريبية لتحديد ما إذا كانت ناتجة عن تحلل الجسيمات الثقيلة. وقد اكتشف مصادم الهادرونات الكبير LHC العديد من الجسيمات الجديدة باستخدام هذه الأساليب، وجميعها تنسجم مع نظرية النموذج القياسي.

يأتي الكشف الجديدة نتاج تجربة اُستخدم فيها مكشاف الميونات CMS، والذي سجل عدداً من أزواج الميونات، وهي جسيمات معروفة ويسهل تعرُّفها تشبه الإلكترونات، لكنّها أثقل. حلّل القائمون على التجربة مقدار طاقات واتجاهات تلك الأزواج من الأيونات وطرحوا سؤالاً: إذا نشأ هذا الزوج من تحلل جسيم واحد، فماذا ستكون كتلة ذلك الجسيم؟

في معظم الحالات، تأتي أزواج الميونات من مصادر مختلفة، تنشأ عن جسيمين مختلفين وليس من تحلل جسيم واحد. إذا ﺣﺎوﻟﺖ ﺣﺴﺎب كتلة جسيم واحد ﻓﻲ ﻣﺜﻞ هذه اﻟﺤﺎﻻت، ﻓﺈﻧﻬﺎ ﺳﺘﻨﺘﺸﺮ ﻋﻠﻰ مساحة واﺳﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﺎﻗﺎت ولن تؤدي إلى إحداث ارتفاع في طاقة واحدة يصل إلى 28 غيغا إلكترون فولت تحديداً (أو أي مقدار آخر من الطاقة) ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺎﻧﺎت. ولكن في هذه الحالة يبدو من المؤكد أنّ هناك ارتفاعاً كبيراً. يمكنك النظر إلى الشكل المرسوم والحكم بنفسك.

هل هذا ارتفاع حقيقي أم أنه مجرد تقلب إحصائي بسبب الانتشار العشوائي للنقاط حول الخلفية (المنحنى المتقطع)؟ إذا كان حقيقياً، فهذا يعني أنَّ عدداً قليلاً من أزواج الميونات تلك قد نشأ بالفعل من جسيم واحد كبير تحلَّل عن طريق انبعاث الميونات، ولم يُشاهد مثل هذا الجسيم الذي تبلغ طاقته 28 غيغا إلكترون فولت من قبل أبداً.

لذا، فإن الأمر برمته يبدو مثيراً للاهتمام، لكن التاريخ علمنا أن نتوخى الحذر. لقد ظهرت آثارٌ بنفس الأهمية في الماضي، لتختفي بعد ذلك عندما جُمعت المزيد من البيانات. تعد حالة الخلل   Digamma (750) أحد الأمثلة القريبة ضمن سلسلة طويلة من الإنذارات الكاذبة، "الاكتشافات الزائفة"،  التي قد يسببها خلل في المعدات أو تحليل مفرط الحماس أو مجرد سوء الحظ.

ويرجع ذلك جزئياً إلى ما يسمى "تأثير البحث في مكان آخر" (Look-elsewhere effect): على الرغم من أنّ احتمال أن يؤدي الضجيج العشوائي إلى ارتفاع بالغ تحديداً عند قيمة 28 غيغا إلكترون فولت قد تكون 13 في المليون، فإن هذا الضجيج قد يسبب ارتفاعاً في مكان آخر في البيانات، ربما عند قيمة 29 غيغا إلكترون فولت أو عند 16 غيغا إلكترون فولت. واحتمالات الوصول إلى هذه القيم على التوالي من قبيل الصدفة هي أيضاً ضئيلة جداً، ولكن مجموع هذه الاحتمالات الضئيلة ليس شديد الضآلة (رغم أنها لا تزال صغيرة جداً). هذا يعني أنّه ليس من المستحيل أن ينشأ ارتفاع بالغ من الضجيج العشوائي.

وهناك بعض الجوانب المحيرة. على سبيل المثال، ظهر الارتفاع المفاجئ عند تشغيل مصادم الهادرون الكبير HLC إحدى المرات ولكن لم يظهر في مرة أخرى، عندما تضاعفت الطاقة. إذ يتوقع المرء أن تنمو أي ظواهر جديدة عندما تكون الطاقة أعلى. قد يكون هناك أسباب لهذا، ولكنها حقيقة لا تبعث على الارتياح في الوقت الحالي.

واقع فيزيائي جديد أكثر غرابة مما نظن

بل إن النظرية أكثر غرابة مما نظن. مثلما يمضي علماء فيزياء الجسيمات التجريبيون وقتهم في البحث عن جسيمات جديدة، يمضي العلماء المُنظرون وقتهم في التفكير في جسيمات جديدة قد يكون من المنطقي البحث عنها: مثل الجسيمات التي تملأ الفراغات في نظرية النموذج القياسي، أو تفسِّر ماهية المادة المظلمة (نوع من المادة غير المرئية)، أو كليهما. ولكن لم يتطرق أحد إلى أي من هذا.

على سبيل المثال، يقترح المُنظِّرون أننا يمكن أن نجد نسخة أخف من جسيم هيغز. ولكن لا يمكن لأي جسيم من هذا النوع أن يتحلل إلى ميونات (هو جسيم أولي مشابه للإلكترون بشحنة كهربائية سالبة ودوران مغزلي).

وقد أُثير الحديث كذلك حول البحث عن بوزون Z الخفيف أو الفوتون الثقيل، ولكنهما سيتفاعلان مع الإلكترونات. وهذا يعني أننا قد نكون قد اكتشفناها بالفعل؛ لأنه يسهُل اكتشاف الإلكترونات. ولكن الجسيم الجديد المحتمل تواجده لا يتطابق مع خصائص الجسيمات التي دار الحديث حولها.

 

علامات:
تحميل المزيد