قبل 110 أعوام، وتحديداً في السادس من أبريل/نيسان عام 1909، حقَّق المستكشف الأمريكي روبرت بيري حلماً بعيد المنال، عندما وصل هو ومساعده ماثيو هنسون إلى القطب الشمالي.
كان الأمر شديد الصعوبة، فلم تكن خرائط جوجل متاحةً بعد، وليس هناك GPS، كل ما يمكن استخدامه كان خريطةً أو أطلساً فقط، نحن نتحدث عن بدايات القرن العشرين، حينما لم يكن كلا القطبين الشمالي والجنوبي قد اكتُشف بعد.
لماذا كان استكشاف القطب الشمالي أكثر صعوبة من نظيره الجنوبي؟
كان العثور على القطب الشمالي أصعب، فعكس القطب الجنوبي، الذي يقع على كتلةٍ أرضية، يقع القطب الشمالي في بحرٍ شاسعٍ مغطَّى بالجليد العائم.
ونظراً إلى أنَّ الجليد مستمرٌّ في الحركة، فإنّ تنصيب عَلَم أو وضع علامة على البقعة غير مجدٍ أي منهما. بالإضافة إلى ذلك، تُصبح البوصلات المغناطيسية عديمة الفائدة في المناطق القطبية، بسبب المجال المغناطيسي في القطبين.
بناءً على ذلك، اعتمد تحديد موضع الشخص على العمليات الحسابية باستخدام الكرونومتر Chronometer وهو في الأساس قطعة زمنية عالية الكفاءة؛ وآلة السدس Sextant وهي أداة ملاحية تسمح للمستكشف بحساب خط العرض استناداً إلى موقع الشمس.
رحلات بيري لاستكشاف القطب الشمالي
قام بيري، وهو مهندس مدني في البحرية الأمريكية، بأوَّل رحلة له إلى المناطق الداخلية من غرينلاند في عام 1886. وفي عام 1891، انضم إليه هينسون -وهو بحار أمريكي من أصل إفريقي- في رحلته القطبية الشمالية الثانية.
قام فريقهما برحلةٍ طويلة في شمال شرقي غرينلاند، واستكشف ما أصبح يُعرف باسم "Peary Land"، وهي شبه جزيرة تقع شمال غرينلاند.
في عام 1893، بدأ المستكشفون العمل نحو القطب الشمالي. وفي عام 1906، خلال محاولتهم الثانية، وصلوا إلى خط العرض 88 درجة شمالاً تقريباً، على بُعد 150 ميلاً فقط من هدفهم.
في عام 1908، سافر الفريق إلى جزيرة إليسمير Ellesmere عن طريق السفن. وفي عام 1909، قطعوا مئات الأميال من الجليد، ووصلوا في يوم 6 أبريل/نيسان إلى خط عرض 90 درجة شمالاً عند القطب الشمالي.
شجار على الاكتشاف.. دكتور كوك: أنا وصلت أولاً
تحدى الدكتور فريدريك أ. كوك تمييز بيري وفريقه بكونهم أول من وصل إلى القطب الشمالي، فقد ادّعى كوك أنه قد وصل بالفعل إلى القطب في العام السابق.
في سبتمبر/أيلول من عام 1909، أعلن كوك أنه وصل هو واثنان من رفاقه من الإنويت (سكّان شمال الكرة الأرضية) إلى القطب الشمالي في 21 أبريل/نيسان 1908. وادّعى أن الظروف الجوية السيئة والجليد المنجرف قد منعا عودته جنوباً، واضطر هو ورفاقه إلى البقاء خلال فصل الشتاء في كهف الجليد.
وفي أول سبتمبر/ أيلول 1909، نشرت صحيفة نيويورك هيرالد الواسعة الانتشار آنذاك، عنواناً في الصفحة الأولى عن اكتشاف الدكتور فريدريك كوك للقطب الشمالي، ووصفته الصحيفة بأنه عاد من الموت بعد أكثر من عام من اكتشافه القطب الشمالي والذي كان في أبريل/نيسان 1908.
بينما نشرت صحيفة نيويورك تايمز، في 7 من سبتمبر/ أيلول 1909، عن اكتشاف بيري للقطب الشمالي بعد تجارب استكشافية لمدة 23 عاماً.
حسابات ويوميات هي كل ما يمتلكه الطرفان من إثباتات
بعد وقتٍ قصير من عودتهم، قام كل من كوك وبيري بنشر نسخته الخاصة من الحقيقة في الكتب التي ناقشت حملاتهما واكتشافاتهما بتفاصيل دقيقة. لاحقاً أصبحت هذه الكتب أكثر الكتب مبيعاً.
وقع عبء إثبات الاكتشافات القطبية على المستكشف، فمن دون الأساليب الحديثة، كان من المتوقَّع أن يحتفظ المستكشفون القطبيون خلال هذا الوقت باليوميّات المفصَّلة والمكتوبة بخط اليد لرحلاتهم، وضمن ذلك الحسابات الملاحية.
عكْس اليوم، عندما يقوم المسافرون بالتدوين حول رحلاتهم إلى أماكن غير معروفة، والتقاط مئات الصور الرقمية والفيديو على طول الطريق، كان المستكشفون القطبيون في عام 1909 أكثر تقيُّداً بأدواتهم.
حتى البث اللاسلكي كان محدوداً خلال هذه الفترة الزمنية؛ كان على المستكشفين الوصول إلى أقرب مدينة مأهولة بالسكان، لمشاركة اكتشافاتهم مع العالم.
تبع ذلك جدالٌ كبير، وفي عام 1911 أقرّ الكونغرس الأمريكي رسمياً بإنجاز بيري، فقد كان يسانده بعض الرعاة الأقوياء مثل "نيويورك تايمز"، ومجتمع "ناشيونال جيوغرافيك".
يحتوي برنامج المحفوظات التابع لمركز بيرد بولار للأبحاث، على أوراق فريدريك أ. كوك، في حين توجد مذكراته وأوراقه الشخصية الأخرى بمكتبة الكونغرس في واشنطن العاصمة، ويمكن العثور على أوراق روبرت إي بيري في الأرشيف الوطني الأمريكي بواشنطن العاصمة.
لكن في الأمر ثغرة.. يبدو أن كليهما لم يصل إلى القطب الشمالي!
في السنوات الأخيرة، يشير مزيد من الدراسات للادعاءات المتضاربة إلى أن أياً من البعثات لم تصل إلى القطب الشمالي بالضبط، ولكن اقترب بيري وهينسون أكثر من ذلك بكثير، فكانا -على الأرجح- على بُعد 30 ميلاً فقط.
ففي عام 1988، أعادت الجمعية الجغرافية الوطنية فحص الادعاءات المقدمة من كلا المستكشفَين. وكشفت إعادة الفحص أن الأدلة التي قدمها بيري لم تُثبت وصوله إلى القطب الشمالي، بل كان على مسافة قريبة جداً منه، كما لم يتم دحض ادعاءات كوك أو إثباتها أيضاً.
كوك وبيري كانا زميلَي سفر
لم يكن وصول كوك وبيري إلى القطب الشمالي مفارقة، فقد كان الاثنان زميلي سفر. تخرَّج كوك في كلية الطب بجامعة نيويورك عام 1980، وقُبيل حصوله على نتائج الامتحان، توفيت زوجته وطفله في أثناء الولادة.
وبينما كان يرغب في الهروب مما يعايشه، قرأ أنّ بيري، المهندس المدني التابع للبحرية الأمريكية، يبحث عن متطوعين، ومن ضمنهم طبيب، للذهاب في رحلة استكشافية إلى غرينلاند.
انضمَّ كوك إلى الرحلة عام 1891، وبدأ الاثنان في الاقتراب أكثر فأكثر، خاصّة بعدما خضع بيري لعلاج كوك بعدما كسرت ساقه.
سرعان ما افترق الثنائي، وسار كل منهما في طريقه لاستكشاف القطب الشمالي، ولكن التقيا مرة أخرى عندما أنقذ الدكتور كوك حياة بيري حينما تقطعت به السبل في منطقة القطب الشمالي.
واصل بيرى حملاته الخاصة للوصول إلى القطب الشمالي، في حين وسّع الدكتور كوك استكشافاته، فذهب إلى جبل ماكينلي (دينالي) في ألاسكا، وذهب إلى أنتاركتيكا أيضاً قبل أن ينطلق أخيراً إلى القطب الشمالي مرة أخرى في فبراير/شباط 1908، عندما فقد طريقه هو وزملاؤه.
عاد الاثنان، وأعلن كل منها أنه وصل إلى القطب الشمالي، واستمر الجدل كما ذكرنا، وإلى الآن لا نعرف أيهما يقول الحقيقة، ربما كلاهما كان على حق، وربما لم يوفَّق أيٌّ منهما في الوصول إلى القطب الشمالي.
ريتشارد بيرد حلَّق فوق القطب الشمالي، ولكن لا مانع من التشكيك
لم يقتصر الجدل على بيري وكوك فقط، ففي عام 1926، بدعمٍ من الجمعيّة الوطنيّة الجغرافية، وتبرّعات عديد من الأشخاص، وصحيفة نيويورك تايمز، وبعض الجهات الأخرى، تمكَّن ريتشارد بيرد، الذي تقاعد رسمياً من البحرية الأمريكية، من استئجار سفينة، وشراء طائرة، وجمع المعدات اللازمة للشروع في رحلته إلى القطب الشمالي.
وفي 9 مايو/أيار 1926، انطلق بيرد في رحلته وطار فوق القطب الشمالي وفقاً لحساباته، والتقط عديداً من الصور والقراءات، ثم عاد إلى سبيتسبرغن في النرويج.
لقي بيرد عديداً من الأوسمة لهذا الإنجاز وأصبح بطلاً شعبياً. فحصلت الجمعية الجغرافية الوطنية على سجلات بيرد، وأكدت أن حساباته وأجهزته الملاحية دقيقة. ولكن، شكَّك البعض في إنجاز بيرد معللين ذلك بأن الطائرة التي استخدمها بيرد لم يكن بمقدورها القيام برحلة ذهاب وإياب في 16 ساعة فقط.
واستمر الجدل ما بين التصديق والتكذيب بعد اكتشاف مذكرات بيري، التي دوّنها بالقلم الرصاص، وكان بها كثير من المحو. اعتقد البعض أن المحو يقدم دليلاً على أن بيرد كان يكذب حول التحليق فوق القطب الشمالي؛ في حين اعتقد البعض الآخر أن هذا يدلّ ببساطة على أنه ارتكب خطأً في الحساب وأنه كان يصححه.
ولعلك تتساءل الآن: ما أهمية الوصول إلى القطب الشمالي من الأساس؟
هناك جهد كبير مبذول من أجل دراسة القطبين الشمالي والجنوبي، فأحوال الطقس في القطب الشمالي والجنوبي مختلفة عن بقية الكوكب؛ فهما أبرد منطقتين مناخيتين على الأرض، ويؤثران في مناخ الكوكب كله.
وهما مكانان جليديان، وبالفعل مصدران باردان للكوكب يؤثران في مناخ الأرض. يمكن اعتبار هذه الحقيقة السبب الأول وراء إجراء البحوث في المناطق القطبية.
الثاني يتمثل في أن المناخ يسخن بسرعةٍ أكبر بكثير في القطبين أكثر من أي مكان آخر، لا سيما في القطب الشمالي. لذا يحتاج العلماء فهم سبب ذلك وما هي الآثار التي ستحدثها هذه الظاهرة.
السبب الثالث الذي يجعل من المهم للغاية إجراء البحوث بالمناطق القطبية يكمن في الخصائص الرئيسية للمنطقتين.
فعندما تتساقط الثلوج، تبقى على الأرض ولا تذوب. يتكون الثلج من بلورات صغيرة ينحصر الهواء بينها. نظراً إلى تراكم طبقات الثلج تدريجياً بمرور الوقت، لم يعد هذا الهواء قادراً على الهروب ويبقى محاصَراً في الثلج. مع مرور السنين، يؤدي التراكم إلى ظهور جليد ضخم يغطي القطبين.
تحتوي طبقات الجليد هذه على سجلات للهواء ومعلومات حول مناخ الأرض تعود إلى ملايين السنين، ومن خلالها يمكن دراسة فترة زمنية معينة من خلال إطلاق فقاعات الهواء المحاصرة.
وهذه الدراسات مهمة، لأنها تمكننا من معرفة الطريقة الطبيعية التي يعمل بها المناخ، كما يفهم العلماء من خلالها الارتباط بين درجات الحرارة ومعدلات
ثاني أكسيد الكربون.
ماذا عن سكان القطب الشمالي؟
يجعل مناخ منطقة القطب الشمالي المتطرف المنطقة مكاناً محظوراً على السفر ومكاناً صعباً للعيش فيه. ومع ذلك، فقد وجد الناس طرقاً لاستكشاف القطب الشمالي والعيش فيه.
يعتقد علماء الآثار والأنثروبولوجيا الآن أن الناس عاشوا في القطب الشمالي منذ عشرين ألف عام. يعد الإنويت في كندا وغرينلاند، ويوبيك وإينوبيات وأثاباسكان في ألاسكا، مجرد عدد قليل من المجموعات التي تنتمي إلى القطب الشمالي.
عاشت الشعوب الأصلية بالقطب الشمالي في المقام الأول من الصيد وصيد الأسماك والرعي وجمع النباتات البرية من أجل الغذاء، على الرغم من أن بعض الناس يمارسون الزراعة أيضاً، خاصة في غرينلاند.
مقارنة بالسكان الأصليين الذين عاشوا في القطب الشمالي آلاف السنين، فإن المستكشفين الأوروبيين هم من الوافدين الجدد نسبياً. بدأ الأوروبيون بالتوجه شمالاً إلى مناطق القطب الشمالي في الدول الاسكندنافية وروسيا منذ نحو ألف عام فقط، مع كثير من الاستكشافات التي حدثت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
يعيش كثير من الناس في القطب الشمالي اليوم بمدن وبلدات حديثة. يعمل الأشخاص أيضاً في القطب الشمالي، حيث يقومون باستخراج النفط والغاز من الرواسب الغنية تحت التربة الصقيعية، أو العمل في السياحة، أو إجراء البحوث.
لا يزال هناك أشخاص آخرون بالمنطقة القطبية الشمالية يعيشون في قرى صغيرة بالطريقة نفسها التي عاش بها أسلافهم.
"مجلس إدارة القطب الشمالي"
هناك مجلس للقطب الشمالي، يتكون من الدول التي لها إقليم في الدائرة القطبية الشمالية. ويتصدى هذا المجلس للقضايا التي تواجهها الأمم والشعوب الأصلية في
المنطقة القطبية الشمالية، ومن ضمن ذلك القطبُ الشمالي. ويشمل المجلس دول كندا،
والدنمارك، وفنلندا، وآيسلندا، والنرويج، وروسيا، والسويد، والولايات المتحدة.
ومنطقة القطب الشمالي لها أهمية اقتصادية، فالتنقيب عن النفط والغاز
في بعض مناطق القطب الشمالي أثبت أنه أمر مربح.
ومع ذلك، فإن الاستفادة من الطرق أو الموارد البحرية في القطب الشمالي أمر حساس من الناحية السياسية. القطب الشمالي في وسط المحيط المتجمد الشمالي، خارج المطالب الإقليمية لأي دولة. ومع ذلك، يجري حالياً استكشاف القوانين الدولية التي تسمح للدول بالمطالبة بالأراضي الممتدة على طول الجرف القاري.
في عام 2007، كانت بعثة البحث الروسية "أركتيكا" التي تستخدم غواصات
متطورة، أول من ينزل إلى قاع البحر الفعلي تحت القطب الشمالي. قامت البعثة بزرع العَلم الروسي فوراً.
كان رد فعل دول القطب الشمالي الأخرى قوياً، فأصدرت الولايات المتحدة بياناً ترفض فيه أي مطالبة روسية بالمنطقة. استخدم وزير الخارجية الكندي جزءاً من
النشيد الوطني الكندي للتوبيخ، ويقول فيه: "هذا هو الشمال الحقيقي القوي والحر،
وهم يخدعون أنفسهم إذا ظنوا أن إسقاط العَلم على قاع المحيط سيغير شيئاً".
وهذه بعض الحقائق عن القطب الشمالي
1- يقع القطب الشمالي للأرض
وسط المحيط المتجمد الشمالي، والمغطى دائماً بالجليد البحري، ويقع عند خط عرض 90 درجة شمالاً. وفي القطب الشمالي تتلاقى جميع خطوط الطول، وأقرب أرض إلى القطب الشمالي هي غرينلاند، وتقع على بُعد 700 كيلومتر.
2- تكون الشمس باستمرار فوق الأفق خلال أشهر الصيف (187 يوماً)، وتحت
الأفق دائماً خلال أشهر الشتاء (178 ليلة) في القطب الشمالي. هناك ليالٍ بيضاء
خلال 15-16 يوماً قبل شروق الشمس وبعد غروب الشمس في القطب الشمالي.
3- الطقس في القطب الشمالي أكثر دفئاً من القطب الجنوبي، ومتوسط درجة
حرارة القطب الشمالي خلال فصل الشتاء هو -34 درجة مئوية، ومتوسط درجة حرارة الصيف القطب الشمالي هو 0 درجة مئوية. تتغير درجة حرارة القطب الشمالي خلال الأعوام العشرين الماضية، وهو ما يعتبره عديد من العلماء نتيجة للاحتباس الحراري.
4- تتميز منطقة القطب الشمالي بفقر غطائها النباتي، حيث توجد بعض أنواع الطحالب، والأعشاب البحرية، والخشخاش القطبي. أما بالنسبة للحيوانات، فهناك
بعض الأنواع القادرة على البقاء في المناخ القطبي مثل الدب القطبي، والأرنب
القطبي، والثعلب القطبي، وحيوانات الرنة وغيرها.
هناك أيضاً نحو 240 نوعاً من الطيور مثل البومة الثلجية، وطيور النورس، والحجل الأبيض.