الذكاء الاصطناعي يأخذ الوظائف من البشر بالفعل؛ فعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية، برز المؤلف والمؤرخ يوفال نوح هراري، بهدوء، بعد أن نشر عام 2014، كتاباً بعنوان "العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري"، تحدث فيه عن تاريخ البشرية انطلاقاً من العصر الحجري ووصولاً إلى القرن الـ21، حسب صحيفة The New York Times الأميركية.
وفي الوقت الحالي، يعمل ريدلي سكوت، مخرج فيلم "Alien"، على تجسيد قصة الكتاب في فيلم سينمائي.
يقدم الكتاب الأخير لهراري، الذي يحمل عنوان "21 درساً للقرن الـ21"، نظرة بالقدر ذاته من الطموح، إلى القضايا الرئيسية التي تشكل موضوع المحادثات العالمية المعاصرة، من الهجرة والقومية وتغير المناخ إلى الذكاء الاصطناعي. كما تحدث هراري مؤخراً عن فوائد ومخاطر وإمكانات الذكاء الاصطناعي في تغيير طريقة عيشنا، وتعلمنا وأدائنا عملنا.
وفيما يلي، المحادثة التي دارت بيننا، علماً أنه تم تعديلها واختصارها:
هل ما زالت تقنية الذكاء الاصطناعي جديدةً لدرجة أن تظل غير منظمة نسبياً؟ هل يقلقك هذا الأمر؟
هناك ما يكفي من السيناريوهات البائسة التي تُظهر الذكاء الاصطناعي بطلاً. لكن في الحقيقة، قد يكون مآله الفشل بطرق عديدة. ولهذا السبب، يتمثل الشكل الوحيد الفعال من تنظيم الذكاء الاصطناعي بالتنظيم العالمي. وفي حال دخل العالم في سباق لتنفيذ مشاريع الذكاء الاصطناعي، فسيحصل بالتأكيد على أسوأ نتيجة ممكنة.
ما زالت تقنية الذكاء الاصطناعي حديثة، فهل هناك بلد فاز فعلاً في سباق تنفيذ مشاريع الذكاء الاصطناعي؟
لقد كانت الصين بالفعل أول دولة تتعامل مع تقنية الذكاء الاصطناعي على المستوى الوطني، وذلك بفضل الاهتمام الشديد من الحكومة بهذا الأمر. فقد كان الصينيون أول من قال: "نحن بحاجة للفوز في هذا الأمر". وهم بالتأكيد متقدمون على الولايات المتحدة وأوروبا بفارق بضع سنوات.
هل تمكن الصينيون من تطوير أسلحة متطورة تعمل بالذكاء الاصطناعي؟
الجميع بصدد دمج الذكاء الاصطناعي بالأسلحة، فبعض البلدان تبني أنظمة أسلحة مستقلة تعتمد على الذكاء الاصطناعي، في حين يركز البعض الآخر على المعلومات المضللة أو الدعاية أو البوتات، لكن ذلك يأخذ أشكالاً مختلفة في دول مختلفة. وعلى سبيل المثال، نملك في إسرائيل واحداً من أكبر مختبرات أنظمة المراقبة القائمة على الذكاء الاصطناعي في العالم، لمراقبة ما يطلق عليها اسم "الأراضي المحتلة". في الواقع، إن أحد الأسباب التي تجعل إسرائيل رائدة في أنظمة المراقبة هو الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني.
أرجو أن تشرح لي قليلاً عن الأمر
إن جزءاً من نجاح الاحتلال يعود أساساً إلى تكنولوجيا المراقبة وخوارزميات البيانات الضخمة. كما أن هناك استثماراً كبيراً في تقنيات الذكاء الاصطناعي بإسرائيل، وذلك لأننا نضع رهاناً على النتائج، ولا يتعلق الأمر بمجرد بعض السيناريوهات المستقبلية.
كان من المفترض أن تجعل تقنيات الذكاء الاصطناعي عملية اتخاذ القرار أسهل بكثير، فهل حدث ذلك؟
تسمح لك تقنية الذكاء الاصطناعي بتحليل المزيد من البيانات بشكل أكثر كفاءة وبسرعة أكبر، لذلك يجب أن يكون بمقدورها المساعدة في اتخاذ قرارات أفضل. لكن ذلك يعتمد أساساً على القرار. ومن ثم، وفي حال كنت ترغب في الوصول إلى محطة الحافلات الرئيسية، يمكن أن تساعدك تقنية الذكاء الاصطناعي في العثور على الطريق الأسهل. لكن في بعض الأحيان، قد تكون هناك حالات حيث شخص ما، قد يكون منافساً، يحاول تقويض عملية صنع القرار. وعلى سبيل المثال، عندما يكون القرار حول اختيار الحكومة، قد يكون هناك جهات ترغب في تعطيل هذه العملية وجعلها أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.
هل هناك حدود لهذه النقلة؟
في الواقع، تعتمد قوة تقنية الذكاء الاصطناعي على قوة المقاييس التي تقف وراءها.
ومن يتحكم في هذه المقاييس؟
البشر يقومون بذلك. فالإنسان هو الذي يضع هذه المقاييس، وليس الآلات. أنت تحدد المقاييس، من ستتزوج أو أي كلية ستدرس فيها، ومن ثم تترك تقنية الذكاء الاصطناعي تختار أفضل قرار ممكن. وينجح هذا الأمر لأن تقنية الذكاء الاصطناعي لديها فهْم أكثر واقعية للعالم مقارنة بك، ولأن البشر يميلون إلى اتخاذ قرارات رهيبة.
لكن ماذا لو ارتكبت تقنيات الذكاء الاصطناعي بعض الأخطاء؟
ليس الهدف من تطوير هذه التقنية أن تكون مثالية، وذلك لأنه بإمكانك دائماً تعديل المقاييس. فكل ما تحتاج إليه تقنية الذكاء الاصطناعي هو أن تقوم بعملها بشكل أفضل من الإنسان، وهو في الواقع، ليس بالأمر الصعب.
ما هي أكثر فكرة مغلوطة عن الذكاء الاصطناعي؟
يخلط الناس كثيراً بين الذكاء والوعي، فهم يتوقعون أن الذكاء الاصطناعي يمتلك وعياً، وهو في الحقيقة أمر خاطئ تماماً. يتمثل مفهوم الذكاء في القدرة على حل المشاكل، أما الوعي فهو القدرة على الشعور بالأشياء، مثل الألم والكراهية والحب والمتعة.
هل تستطيع الآلات الوصول إلى مستوى معين من الوعي؟
هناك العديد من "خبراء" أفلام الخيال العلمي الذين يعتقدون أن ذلك ممكن، ولكن ليس هناك ما يدل على أن أجهزة الكمبيوتر على الطريق نحو تطوير وعي خاص بها.
هل نرغب في أن تكون لأجهزة الكمبيوتر مشاعر؟
عموماً، نحن لا نرغب في أن تكون لأجهزة الكمبيوتر مشاعر، نحن نريدها فقط أن تكون قادرة على فهم ما نشعر به. على سبيل المثال، يفضل الناس دوماً إجراء تشخيص لدى طبيب حقيقي عوضاً عن طبيب آلي يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي. قد يتمكن هذا الطبيب الآلي من فهم شخصيتك وطبيعة عواطفك، وربما قد يفهمك أكثر من والدتك، وكل ذلك من دون وعي. فأنت لست بحاجة إلى أن تكون لديك مشاعر لفهم مشاعر الآخرين.
إذن، ما هو المجال الذي لم يتم فيه تطبيق تقنية الذكاء الاصطناعي إلى الآن؟
على المدى القصير، لا يزال هناك بعض المجالات التي لم يتم فيها تنفيذ هذه التقنية. أما الآن، فتتجاوز معظم المهارات التي تتطلب مزيجاً من الأداء المعرفي واليدوي ما وصل إليه الذكاء الاصطناعي. لنأخذ مثال الدواء مرة أخرى، إذا قارنا بين الطبيب والممرضة، فسيكون الأمر أسهل بكثير بالنسبة للذكاء الاصطناعي ليحل محل الطبيب، الذي يقوم أساساً بتحليل البيانات لتشخيص المرض ويقترح العلاجات. لكن استبدال الممرضة، التي تقوم بحقن الأدوية وتغيير الضمادات، سيكون أكثر صعوبة. لكن هذا الأمر سيتغير، فنحن ما زلنا نشهد بداية إمكانات تقنيات الذكاء الاصطناعي.
إذن، هل يمكن القول إن تقنية الذكاء الاصطناعي قد تخلق ثورة؟
ليس تماماً، فنحن لن نرى هذا التحول التام إلا بعد مرور 5 أو 10 أعوام، حينها ستكون هناك سلسلة كبيرة من الاضطرابات المستمرة.
وكيف سيؤثر هذا على القوى العاملة؟
يواجه الاقتصاد اضطراباً كبيراً فيما يتعلق بالقوى العاملة البشرية، وذلك بسبب الذكاء الاصطناعي. وعلى المدى الطويل، لن يكون أي موظف في مكان العمل آمناً بنسبة 100% من استبداله بتقنية الذكاء الاصطناعي والأتمتة. لذلك، سيحتاج الناس إلى إعادة تطوير أنفسهم باستمرار. وقد يستغرق حدوث ذلك 50 عاماً، لكن لن يظل أي شيء آمناً في نهاية المطاف.
الذكاء الاصطناعي يجبر الناس على إعادة تطوير أنفسهم. لكن هل يمكن أن يجعل الذكاء الاصطناعي عملية إعادة التطوير مخيفة بنسبة أقل؟
يمكن أن تجعل هذه التقنية عملية إعادة التطوير أفضل وأسوأ على حد سواء. فقد تكون أسوأ، لأن الذكاء الاصطناعي يجبرنا على التكيف؛ إذ إنه مع تطور هذه التقنية، تختفي الوظائف ويصبح من الضروري على الناس التكيف مهنياً مع الأمر.
من جهة أخرى، يمكن أن تساعد هذه التقنية في إحداث ثورة بالتعليم، فضلاً عن تطويره.
كيف بإمكان هذا الأمر أن ينجح؟
بدلاً من أن يكون الطلاب جزءاً من مجموعة تعليمية كبيرة في المنظومة التربوية العادية، يمكنك الاعتماد على المعلم الآلي الذي يعمل بتقنية الذكاء الاصطناعي. فهو لن يعلمك فقط، بل سيوجهك أيضاً. وسيتعرف المدرس الخاص على نقاط القوة والضعف لديك. كما سيكون بمقدوره معرفة ما إذا كنت ستفهم الدرس باستخدام الكلمات أو الصور، وذلك بفضل الاستعارات المكانية أو الزمنية، ومن ثم سيقوم بإعداد الدروس المناسبة لك.
وقد يكون تعلم مهارات جديدة صعباً للغاية بعد سن الأربعين. ولكن بما أن الذكاء الاصطناعي يجبر الناس على إعادة تطوير أنفسهم، فإن ذلك سيساعدهم على تجاوز هذه العملية بشكل أفضل بكثير من أي معلم بشري.
هل جعلتك تقنية الذكاء الاصطناعي تقوم بإعادة تطوير نفسك؟
ساعدتني الكتابة عن الذكاء الاصطناعي كثيراً. فقبل عقد من الزمان كنت أستاذاً غير معروف يكتب عن تاريخ العصور الوسطى، أما اليوم فأنا أقابل الصحافيين والسياسيين ورؤساء دول يتحدثون عن السايبورغ والذكاء الاصطناعي، لذا كان عليَّ أن أعيد تطوير نفسي على طول الطريق.