الأشخاص ذوو الأصول الآسيوية والأوروبية ورثوا قدراً ضئيلاً من الحمض النووي الخاص بسلفٍ غير متوقع للبشر: لقد ورثوا بعضاً من جينات الإنسان البدائي.
وفي حين أن الأفارقة ينحدرون فقط من الإنسان المعاصر، فإن أغلب من ينحدرون من أصولٍ غير إفريقية تقريباً، ينحدرون أيضاً من الإنسان الحديث، ولكن لديهم كمية ضئيلة من جينات موروثة من الإنسان البدائي أيضاً.
ويبدو أن هذه الجينات رغم قلتها لها تأثير إيجابي على صحة الآسيويين والأوروبيين، حسب تقرير لصحيفة The New York Times الأميركية.
لماذا ورث الأوروبيون والآسيويون جينات من هذا الإنسان البدائي رغم انقراضه؟
نتجت هذه الجينات عن التكاثر المتكرر منذ فترةٍ طويلة بين الإنسان البدائي والإنسان المعاصر.
لكن لماذا لا تزال تلك الجينات موجودةً بعد 400 ألف سنة من انقراض الإنسان البدائي؟.
لقد تبين أنَّ بعض تلك الجينات قد تحمي الإنسان من الإصابة بالأمراض، ولهذا السبب فإنها استمرت بعد أن إنتقلت للإنسان المعاصر.
وفي دراسةٍ نُشرت يوم الخميس 4 أكتوبر/تشرين الأول، أعلن العلماء عن كشفهم أدلةً جديدة تُثبت أنَّ الإنسان المعاصر عند خروجه من إفريقيا منذ حوالي 70 ألف سنة تعرَّض لأنواعٍ جديدة من الفيروسات، بما في ذلك بعض الفيروسات المرتبطة بالإنفلونزا والهربس والإيدز.
ومن المحتمل أنَّ تلك الأمراض قد انتقلت من الإنسان البدائي مباشرةً إلى الإنسان المعاصر.
وكان الإنسان المعاصر على وجه التحديد عُرضةً للإصابة بتلك الأمراض لأنَّه لم يمتلك مناعة يمكنها مهاجمة مسببات تلك الأمراض، عكس الإنسان البدائي الذي كان لديه مناعة ضدها نظراً لأنه هاجر خارج إفريقيا قبل الإنسان المعاصر.
والآن بدأ العلماء يتعرفون على الفيروسات التي تبادلها الإنسان البدائي مع المعاصر
لم يكن بمقدور العلماء أن يكتفوا بالقول: "نعم، لقد تبادل الإنسان المعاصر والإنسان البدائي الفيروسات".
هذا ما يقوله ديفيد إينارد، المتخصص في علم الأحياء التطوري في جامعة أريزونا الأميركية وأحد المشاركين في تأليف البحث الجديد الذي نُشر في دورية Cell العلمية.
ومن حسن الحظ أنه يمكن للعلماء الآن البدء في القول "إنَّنا قد نتوصل إلى أنواع تلك الفيروسات" عبر محاولة دراسة وتقصي آثار جينات الإنسان البدائي.
ومن حسن الحظ أيضاً أن الإنسان البدائي ساعدنا على البقاء بصحة جيدة
لكن إذا كان الإنسان البدائي قد تسبب في إصابتنا بالمرض، فالمفارقة أنه ساعدنا أيضاً على البقاء في صحة جيدة، وتحديداً الآسيويين والأوروبيين الذين ورثوا بعضاً من جينات الإنسان البدائي.
إذ أن بعض الجينات الموروثة من خلال التزاوج بين النوعين قد نجحت أيضاً في حماية أسلافنا من هذه الأمراض، تماماً مثلما فعلت مع الإنسان البدائي.
ويقول لويس كوينتانا مورسي، اختصاصي علم الجينات في معهد باستير في باريس الذي لم يشارك في البحث الجديد، إنَّه لم يدر في مخيلة العلماء أنَّهم قادرون على الكشف عن التاريخ الطبي القديم للسلالات البشرية ولو بقدرٍ يسير.
وأضاف: "قبل خمس سنوات، كان يصعب علينا تصور ذلك".
فالهروب من الفيروس بدلاً من مجابهته كان وسيلته
تقتل الخلايا المناعية داخلنا الفيروسات باستخدام ترسانة من الأسلحة، مثل الأجسام المضادة والإشارات التي تدفع الخلايا المصابة إلى الانتحار.
لكنَّ إينارد بدأ بحثه بالتساؤل عما إذا كان البشر عبر تاريخهم قد طوَّروا طرقاً أخرى لتجنب الإصابة.
لا يمكن للفيروسات أن تتكاثر من تلقاء نفسها.
فهي تستحوذ على البروتينات الموجودة داخل خلايا الإنسان لتساعدها على التكاثر عن طريق نسخ الجينات الفيروسية وبناء هياكل جديدة لوضعها بداخلها.
وإذا كانت هذه البروتينات قادرة على تغيير شكلها، لأصبح الأمر أكثر صعوبة على الفيروسات في استخدامها للتكاثر.
وقال إينارد: "بدلاً من اتباع استراتيجية الهجوم على الفيروس، فإنَّك تهرب منه".
ولمعرفة ما إذا كان هذا هو حقاً نظام الدفاع الذي يستخدمه الجسم، كان على إينارد أن يحصر كل البروتينات البشرية المعروفة بتفاعلها مع فيروس واحد على الأقل.
لكن لم تتوفر مثل تلك القائمة التي تضم جميع تلك البروتينات. لذلك كان عليه البحث في جميع المؤلفات العلمية المتاحة لتجميعها.
وبمجرد أن انتهى من وضع قائمة تضم 1300 بروتين، وهو الأمر الذي استغرق منه أربعة أشهر، درس تاريخ تطورها.
ومن خلال مقارنة هذه البروتينات عبر تفاعلها مع أنواعٍ مختلفة، اكتشف أنَّ العديد منها قد تغيرت في مسار تطورها عبر تاريخ البشر.
من 1 إلى 2 % من الحمض النووي لغير الأفارقة جاء من الإنسان البدائي
منذ ملايين السنين التي انفصل خلالها أجدادنا عن الرئيسيات الأخرى، حدثت ثلث التغيرات التكيفية في البروتينات التي تتفاعل مع الفيروسات.
وقد قاد هذا الاكتشاف المدهش إينارد والدكتور ديمتري بيتروف، المتخصص علم الأحياء التطوري في جامعة ستانفورد الأميركية، إلى التساؤل عن تأثير جينات الإنسان البدائي على البشر الحاليين.
عاش الأسلاف المشتركون بين الإنسان المعاصر والإنسان البدائي قبل 600 ألف سنة تقريباً، ربما في إفريقيا.
وترك الإنسان البدائي القارة قبل أن يفعل الإنسان المعاصر بوقتٍ طويل وانتشر على مساحاتٍ شاسعة، من ساحل إسبانيا إلى سيبيريا، قبل أن ينقرض.
وقد تمكَّن العلماء من خلال الأحافير من إعادة بناء الجينوم الكامل للإنسان البدائي.
ووجدوا أنَّ الأشخاص الذين ينتمون لسلالاتٍ غير إفريقية يحملون 1% أو 2% من الحمض النووي للإنسان البدائي.
وقد وصلت هذه الجينات عبر التزاوج بين السلالتين، وأغلبها كان ضاراً بالصحة
وقد نجح هذا القدر اليسير من الحمض النووي في الوصول إلى جيناتنا من خلال التزاوج المتكرر بين النوعين.
لكن بعد أن انقرض الإنسان البدائي، أخذ معدل هذا الحمض النووي في الجينات الخاصة بنا في الانخفاض تدريجياً.
من المرجح أنَّ معظم جينات الإنسان البدائي كانت ضارة بصحتنا أو قللت من خصوبتنا.
وبالتالي اختفت من الإنسان المعاصر، لأن من يحملونها معرضون للموت بشكل أكبر احتمالاً.
لكن بعضها كان له مميزات للإنسان المعاصر
لكنَّ بعض جينات الإنسان البدائي أصبحت أكثر شيوعاً، ربما لأنَّها قدمت شيئاً أشبه بالميزة التطورية للإنسان المعاصر.
وبالتالي من يحملونها من البشر يحتمل نجاتهم من بعض الأمراض بسبب هذه الميزات.
ووجد الباحثون في السنوات الأخيرة أنَّ بعض تلك الجينات تشَّفر البروتينات التي تصنعها الخلايا المناعية.
وتكهن الباحثون بأنَّ الإنسان المعاصر قد استفاد من وجود جينات الإنسان البدائي داخله في مكافحة الإصابة بالأمراض.
كان لدى إينارد وبيتروف سؤال أكثر تحديداً: هل اكتسب الإنسان الحديث جيناتٍ ساعدت الخلايا على تجنب فيروساتٍ معينة عن طريق تغيير أشكال البروتينات الخلوية؟
فحص الباحثون الجينوم الخاص بالآسيويين والأوروبيين، واكتشفوا أنَّ جزءاً كبيراً من الجينات الخاصة بالإنسان البدائي داخلهم بالفعل تصنع البروتينات التي تتفاعل مع الفيروسات.
ولابد أنَّ الفيروسات التي أصابت الإنسان البدائي كانت تشكل تهديداً كبيراً للإنسان المعاصر عند مغادرته إفريقيا. فلم تكن لديه مناعة ضد هذه الأمراض.
لكنَّها كانت موجودة لدى الإنسان البدائي، ومن خلال التزاوج بين النوعين، زوَّدت جينات الإنسان البدائي البشر المعاصرين بالدفاعات الوراثية.
وهذه الأمراض الخطيرة ساعدنا الإنسان البدائي في مقاومتها إلى اليوم
وعثر إينارد وبيتروف على أدلةٍ حول أنواع الفيروسات التي تحمي جينات الإنسان البدائي من تعرض الإنسان المعاصر للإصابة بها.
فقد وجدوا أن العديد من تلك البروتينات التي تصنعها هذه الجينات تتفاعل داخل البشر مع فيروسات الأنفلونزا فقط على سبيل المثال. وهناك بروتينات أخرى لا تتفاعل إلا مع فيروس الإيدز.
ويقول إينارد: "نحن لا نقول إنَّ الفيروسات التي تصيب البشر في الوقت الحاضر تأتي من الإنسان البدائي". فمن الواضح على سبيل المثال أنَّ فيروس الإيدز قد أصاب البشر قبل قرنٍ من إصابته الشمبانزي.
عوضاً عن ذلك، من المحتمل أنَّ الإنسان المعاصر قد أُصيب بفيروس قديم من نفس سلالة فيروس الإيدز الحالي.
ولم يستطع إينارد الكشف عن طريقة تعرض الإنسان المعاصر لمسبب المرض الجديد في ذلك الوقت، ربما مباشرةً من خلال ممارسة الجنس مع الإنسان البدائي، أو عن طريق أكل الحيوانات التي اصطادها الإنسان المعاصر والإنسان البدائي.
لكن من الواضح أنَّه بالنسبة لمليارات البشر الموجودين على قيد الحياة اليوم، من المرجح أنَّ جينات الإنسان البدائي تؤدي دوراً هاماً في الدفاع ضد مثل هذه الفيروسات.
ويقول كوينتانا مورسي: "ما نحن إلا نتاج ماضينا".