يساعدنا على التأقلم لكنه يصبح سجناً.. لماذا يخضع معظمنا للروتين؟ إليك التفسير العلمي لذلك

تختلف تجاربنا إزاء قيمة الروتين، وبالنسبة للغالبية العظمى منَّا فإنَّ الروتين يساعدنا على التأقلم مع سلسلة القرارات المستمرِّة التي تواجهنا في حياتنا اليومية، لكن عندما يزداد الروتين عن حدِّه، فإنَّه قد يصبح سجناً، وخاصةً لناسٍ بعينهم، لكن لمَ يحدث هذا أحياناً لآخرين.

عربي بوست
تم النشر: 2018/08/19 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/08/19 الساعة 12:55 بتوقيت غرينتش
Concept of bureaucracy with man paddling in a sea of sheets

عُرِفَ عن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما امتلاكه خزانة ملابس مليئة ببذلاتٍ متطابقة، بصفته أحد قادة العالم، كانت الحياة تتطلَّب منه اتخاذ قراراتٍ مهمة كثيرة بما يكفي، وكان منطق أوباما أنَّه كان من العقلانيّ أن يُقلِّل مدى تعقيد الخيارات الأقل أهمية، حسب موقع ScienceAlert الأسترالي.

الفنانون ضد الروتين

لكن يُنظَر للفنانين على أنَّهم مختلفون عن هذا النَّهج، فعلى سبيل المثال عاش الرسام البريطاني فرانسيس بيكون حياةً شخصية عاصِفة، إذ كان يمتلك استوديو رسمٍ اشتهر بفوضويته، وكان ميالاً للسهر في نوادي لندن الليلية سيئة السمعة. ومع ذلك، كانت عادات بيكون الخاصة بعمله منتظمة على غير المتوقع، إذ يبدأ عادةً بالعمل فجراً بكوبٍ من الشاي القوي، قبل أن يخرج قُرب منتصف اليوم لشرب أول كأس في يومه.

الروتين يساعدنا على التأقلم، لكنه قد يصبح سجناً

تختلف تجاربنا إزاء قيمة الروتين، وبالنسبة للغالبية العظمى منَّا فإنَّ الروتين يساعدنا على التأقلم مع سلسلة القرارات المستمرِّة التي تواجهنا في حياتنا اليومية، لكن عندما يزداد الروتين عن حدِّه، فإنَّه قد يصبح سجناً، وخاصةً لناسٍ بعينهم، لكن لمَ يحدث هذا أحياناً لآخرين.

إذن كيف يمكنك تحقيق توازنٍ صحيٍّ بهذا الشأن؟

أحد الأسباب التي تجعل اتِّخاذ القرارات صعباً من الأساس هو أنَّ معظمنا سيئٌ للغاية في اتِّخاذ القرارات. الحقيقة أنَّنا لا ندرِك بالكاد ما نريده حقاً، ما يعني أنَّه حتى أبسط القرارات قد تُدخِلنا في حيرةٍ كبيرة.

قرارات معملية محيّرة

يتضح هذا بشكلٍ لا ريب فيه عندما نوضَع تحت "ظروفٍ معملية". عادةً ما يحاول علماء النفس والاقتصاد السلوكي استكشاف كيفية اتخاذ الناس للقرارات بأن يُجرِّدوا المشكلة حتى تظهر في أبسط شكلٍ لها. وفضلاً عن أن يطلبوا من الناس اتِّخاذ قراراتٍ ما، تتراوح ما بين اختيار فطورهم وحتى تحقيق أهدافهم المهنية، عادةً ما تركِّز التجارب على قراراتٍ تتضمَّن كمياتٍ بسيطة: المال والمخاطرة مثلاً.

وبهذا، في دراسةٍ نموذجية، قد تُسأل امرأة مشارِكة في التجربة ما إن كانت تُفضِّل الحصول على 4 دولاراتٍ مضمونة، أم أن تواجه احتمالاً بنسبة 50% أن تحصل على 10 دولاراتٍ مقابل نسبة 50% ألَّا تحصل على أي شيء. يتضح أنَّه حتى قراراتٍ بسيطة كتلك تصبح صعبةً على نحوٍ مدهش. وفي تجربةٍ للقمار، سواءٌ كان الرهان بأموالٍ حقيقية أم لا، يكون مفيداً في بعض الأحيان أن يُقدَّم للشخص الخيار ذاته مرتين، لتُكوَّن صورةٌ عن مدى اتِّساق وثبات خياراته، حسب الموقع الأسترالي.

وبالطبع، فإنَّه إذا قُدِّم لشخصٍ مشكلتان متطابقتان على التوالي، فإنَّ رد فعله سيكون متسقاً، لكن إذا واجه الشخص نفسه 50 مشكلةً مختلفة، تتكرر كل مشكلة منها مرتين بترتيبٍ عشوائي، بمجمل 100 مشكلة، فإنَّ الاحتمال الأكبر أنَّه سيعامل كل مشكلةٍ جديدة كما لو كان يواجهها للمرة الأولى.

وعليه، وفقاً لمثل تلك الدراسات، إلى أي مدى نحن متسقون فعلاً في خياراتنا؟ تبيَّن أنَّنا نفتقر للاتِّساق على نحوٍ صادم. وفي الواقع، في 20% إلى 30% من هذه المشكلات، يميل الناس إلى اتخاذ قرارين مختلفين لنسختي المشكلة ذاتها. وكذلك يتطلَّب اتِّخاذ القرارات جُهداً مهولاً، إذ عادةً ما يغادر الناس المعمل، شاعرين أنَّ قواهم قد استُنزِفت.

كيفَ يُقدِّم الروتين حلاً طبيعياً لمشكلة اتِّخاذ القرارات؟

هنا التفسير لذلك، فبدلاً من الاضطرار إلى اتخاذ قرارٍ جديد كل لحظة، يمكننا إدارة حياتنا باستخدام استراتيجية بسيطة:

(أ) إذا ما تساوت الأمور بعضها بالبعض، نعمَد للاختيار أيّاً كان ما اخترناه مسبقاً.

و(ب) نُنظِّم حياتنا على نحوٍ يجعلنا نواجه الخيارات ذاتها، مرةً بعد مرة.

تلك هي معجزة الروتين!

ننهض كل صباحٍ في الوقت ذاته، نأكل الطعام ذاته على الفطور، نخرُج قاصدين مكان العمل ذاته ونستقل وسيلة المواصلات ذاتها، نُقابل الزملاء ذاتهم ونعمَل على تولِّي مهام هيَ نفسها تقريباً. وفي النهاية يخفِّف هذا فعلاً من عبء اتِّخاذ القرارات بشكلٍ مستمر.

لكن مهلاً، إليك الجانب المظلم

لكنْ للروتين جانب مظلم، قد تجعلنا المغالاة في الروتين على الأرجح حبيسين لأنماطٍ مُتيبِّسة من الفِكر والسلوك لا مهرب منها. وبالفعل فإنَّ هذه سمة بعض الاضطرابات النفسية: على سبيل المثال، قد يجد المصابون باضطراب الوسواس القهري أنفسهم يتفقَّدون الأبواب، أو يغسلون أيديهم، أو ينظفون، أو يرتِّبون ما حولهم في دوامةٍ مستمرة، لكنَّ الغالب أنَّ هناك قوَّة نفسية مضادة تنجح في كسر حلقات التكرار تِلك: الكثير من الروتين يصبح مملاً لحدٍّ قاتل.

كثيرٌ منَّا راضٍ بتناول الفطور ذاته أو الانتقاء بين اختياراتٍ محدودة للفطور، مدَّخرين بذلك مواردنا الإدراكية لتحدِّيات اتِّخاذ القرار التي ستواجهنا في يومنا. ومع ذلك لن يعجِب الكثيرين منَّا أن يأكلوا الطعام ذاته في وجبة العشاء، بعد أن تكون تحدّيات اليوم قد ولَّت.

التوازن بين الروتين والتجديد

وكذلك في عدة جوانبٍ حياتية أخرى، علينا خلق توازنٍ بين الروتين والتنويع، وهذا توازنٌ قد يعتمد على عددٍ من العوامل الشخصية والاجتماعية: تختلف نقطة التوازن المُريح من شخصٍ لآخر. فقد يواجه بعضنا خطر التضييق على استكشافنا الشخصي لعالمنا إذا ما التزمنا بعاداتٍ بعينها على نحوٍ لا مرونة فيه، وقد يرفض البعض الآخر الروتين بكل أنواعه، لكنَّهم يعانون فيما بعد جرَّاء الفوضى التي يسفر عنها ذلك.

كذلك قد نبالغ في قدر التنوُّع الذي نبتغيه، ففي تجربةٍ كلاسيكية طُلِب من المشاركين التخطيط لاستهلاكهم من الطعام للأسبوع التالي، عمد الناس بشكلٍ نموذجي لاتِّباع استراتيجية تهدِف التنوُّع، إذ اختاروا مثلاً نكهةً مختلفة من الزبادي لكل يوم. لكن حينما استلزم اتخاذهم كل قرارٍ من الخُطة المذكورة يوماً بيوم، كانوا أكثر ميلاً لأن ينتقوا الخيار ذاته مراراً، وهو الخيار المفترض أنَّه المفضَّل لديهم.

تُبيِّن هذه الدراسة كذلك لِمَ يفضِّل بعضنا الروتين أكثر من البعض الآخر. درس الباحثون المتغيِّرات الاجتماعية والاقتصادية بين المشاركين، واكتشفوا أنَّ الناس الذين يتملَّكهم شعورٌ بـ"الجمود الاقتصادي"، أي بامتلاكِهم قليلاً من السيطرة على حياتهم، يميلون لقَصد المزيد من التنوُّع. ويطرح مؤلفو الدراسة نظرية أنَّ الميل إلى التنوُّع في اختيار نوع الزبادي قد يكون محاولةً لتعويض فقدهم السيطرة والخيار في جوانبَ أخرى من حياتهم.

هل لديك القدرة على الاختيار؟ هذا هو السؤال

وبشكلٍ أعمّ، فإنَّ هذا قد يشير إلى أنَّه إذا ما كنَّا نشعر بامتلاكنا السيطرة على حياتنا، فإنَّ الروتين سيكون أقل قمعاً لنا. وبالفعل، عندما يكون الروتين أمراً لم تكُن لنا حرية اختياره، بل نشعر وكأنَّما فرضته الظروف علينا، قد نتوق حينذاك للهرب منه، سواءٌ كان ذاك في استطاعتنا أم لا.

المؤكَّد أن كل حياةٍ في حدِّ ذاتها هي مزيجٌ من التكرار والتجديد. والنفور من الروتين بكل أنواعه هو أمرٌ ينافي المنطق كما النفور من التنفس، إذ إنَّه لا تمكننا الحياة دون روتين، والواقع أنَّ الأهم قد يكون تقرير أيّ جوانب حياتِنا نُخضِعها للروتين، فضلاً عن تحقيق التوازن الإجمالي الكامل بين الروتين والتنوُّع.

وهنا قد يكون مفيداً أن نتعلَّم من أوباما، أي نركِّز مواردنا العقلية على أشياءٍ ذات أهمية فعلية لنا فيما نُسنِد الباقي للروتين. وبهذه الطريقة، ربما يكون الروتين للمفارقة الظريفة هو سبيلنا لعَيش حياةٍ أكثر تشويقاً وتنوُّعاً.


واقرأ أيضاً..

5 أشياء جميلة في الروتين "الممل"

هذا ما يميزنا عن القردة وإنسان الغاب علمياً.. العلماء يحققون إنجازاً ويحددون لأول مرة الجينات المسؤولة عن تطور أدمغة البشر