علم النفس يعيد دراسة نظرياته.. فما هو مصير التفسيرات الكلاسيكية التي تشرح سلوكنا كبشر؟

رغبة تحطيم التماثيل تمتد إلى ما هو أبعد من الميادين العامة في البلاد المضطربة سياسياً. ومؤخراً، وصلت هذه الرغبة إلى بعض أركان المشهد العلمي، وخاصةً في علم النفس.

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/20 الساعة 15:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/07/21 الساعة 09:09 بتوقيت غرينتش

رغبة تحطيم التماثيل تمتد إلى ما هو أبعد من الميادين العامة في البلاد المضطربة سياسياً. ومؤخراً، وصلت هذه الرغبة إلى بعض أركان المشهد العلمي، وخاصةً في علم النفس.

في الأشهر الأخيرة، لفَّ بعض الباحثين والصحافيين حبالاً حول أعناق 3 نُصُبٍ على الأقل من أركان علم النفس المعاصر:

  • تجربة سجن ستانفورد الشهيرة، التي وجدت أنَّ الأشخاص الذين يمثّلون دور حرَّاس السجن سرعان ما يتصرَّفون بقسوةٍ غير معهودة.
  • اختبار المارشميللو (الحلوى) المعروف، الذي انتهى إلى أنَّ الأطفال الصغار الذين تمكَّنوا من تأجيل إشباع رغباتهم حقَّقوا بعد أعوامٍ إنجازاتٍ تعليمية أكبر مِمَّن لم يستطيعوا الانتظار.
  • والمفهوم المؤثر الأقل شهرة عن استنفاد الذات، وهي الفكرة القائلة بأنَّ قوة الإرادة تُشبه عضلةً يمكن زيادة كُتلتها، لكنَّها كذلك تتعب وتُستنزَف.

 المقالات المُعارضة لهذه الدراسات ليست جميعها جديدة. وكُلٌ منها يعتمد على مزاعم ودلائل كاتبه، وتتضمَّن جدالاتٍ بشأن المنهجية المتَّبعة في كل تجربة، والتحيُّز الإحصائي المحتمل بها، وهي جدالاتٌ ظهرت إلى العلن من قبل بشكلٍ أو آخر.

لكن منذ عام 2011، اتَّجه مجال علم النفس لإجراء تقصٍّ مُكثَّف حول تاريخه الخاص، فأعاد إجراء أكثر من 100 دراسةٍ معروفة. ولم يتم في معظم الوقت الحصول على النتائج الأصلية نفسها، وقيل إنَّ هذه الأبحاث المثيرة للجدل اتسمت بالتحيز أو المبالغة حتماً؛ بسبب التغيُّرات بين الأجيال، ووُجِّهَت إليها تُهم بممارسة السطوة الأبوية.

إعادة الاختبارات النفسية تطهير للمنزل وتصحيح لأخطاء سابقة

وقال بريان نوسيك، وهو أستاذٌ بعلم النفس في جامعة فيرجينيا قاد حملة تكرار التجارب، لصحيفة The New York Times: "هذه مرحلة تطهير المنزل، ونجد فيها أنَّ كثيراً من الثوابت ليست متينةً كما ظننا. إنَّها لحظة إصلاح، نقول فيها لنُصحِّح خطأنا بأنفسنا، ونبني على معرفةٍ نعلم مسبقاً أنَّها ذات أساسٍ قوي".

ومع ذلك، فإنَّ دراسة السلوك البشري لن تكون أبداً دراسةً واضحة كعلم الفيزياء أو طب القلب، كيف تكون كذلك من الأصل؟ وعليه، فإنَّ تِلك سمة تجارب المحاكاة التفصيلية التي يجريها علم النفس أيضاً. وفي الوقت ذاته، فإنَّ اكتشافات علم النفس سهلة الفهم ويجدها العامة ذات صلةٍ بحياتهم أكثر من أية دراساتٍ أخرى في معظم المجالات العلمية الأخرى.

كذلك، يوجد بعلم النفس الملايين من واضعي النظريات الهواة ممَّن يفحصون نتائج تلك الدراسات بناءً على تجاربهم الشخصية. وأحكام العامة ذات أهمية في هذا المجال خصيصاً أيضاً.

وفرق كبير بين التدقيق والتشكيك في النظريات الكلاسيكية لأبسط السلوكيات البشرية

أن تُدقِّق بشأن الدراسات التي تُنشَر يومياً في المجلات العلمية التي تُشكِّل أساس التبادل العلمي الحالي في مجال البحث السلوكي، هو شيءٌ مختلف تماماً عن التشكيك في تجاربَ أصبحت من كلاسيكيات المجال، وأصبحت كذلك مشهورةً حول العالم خارج نطاق علم النفس؛ لأنَّها نسجت قالباً درامياً حول ظواهر أدرك الناس وجودها في أنفسهم وفي الآخرين.

تعيش هذه التجارب الكلاسيكية في الثقافة الشائعة باعتبارها مجازاتٍ قوية، وتفسيراتٍ لبعض جوانب سلوكنا نشعُر بأنَّها حقيقية، وأنَّه أمكن تمييزها بشكلٍ ما في تمثيليةٍ مصغَّرة أُجريَت في معمل ونظَّمها باحث أو فريق بحث مُبتكِر.

وأبرز مثالٍ على ذلك تجربة سجن ستانفورد

في صيف عام 1971، جنَّد فيليب زيمباردو، وقد كان حينها عالم نفسٍ بمنتصف مسيرته المهنية، 24 طالباً جامعياً من خلال إعلانٍ نُشِر في صحيفة، ووزَّع نصفهم عشوائياً كي يكونوا "سجناء" والنصف الآخر "حراس"، ووضعهم في سجنٍ زائف، به زنزانات وزيٌّ موحَّد لكلا الفريقين. وسجَّل زيمباردو تجربة المحاكاة بالفيديو.

وبعد مرور 6 أيام، أوقف زيمباردو التجربة؛ إذ أبلغ أنَّ "الحراس" قد تقمصوا أدوارهم أكثر من اللازم. أصبحوا مسيئين إلى السجناء، وبلغت إساءة بعضهم حداً صادماً.  

نشر زيمباردو كتاباتٍ عن التجربة في عددٍ من المجلات العلمية المغمورة. وقدَّم تقريراً مكتملاً عنها في مقالٍ كتبه ونُشِر بصحيفة The New York Times الأميركية، واصفاً فيه كيف يمكن لغريزة القسوة أن تظهر على نحوٍ عفوي في أشخاصٍ عاديين نتيجةً لضغوطٍ وتوقُّعات تنشأ من وجودهم في مواقف معينة.

ساعد ذلك المقال، بجانب فيلم "Quiet Rage" الوثائقي عن التجربة، زيمباردو كي يصبح نجماً في المجال ومفضَّلاً لدى وسائل الإعلام، وكان ذلك ضمن تبعات فضيحة سجن أبو غريب ببداية الألفية.

معترضون اعتبروا التجربة تشجيعاً على السلوك العدواني

ربما يكون الاعتراض الرئيسي على مزاعم التجربة هو أنَّ مؤلفها درَّب "الحراس" على أن يكونوا صارمين وخشنين في تعاملهم.

إذ كتب بيتر غراي، وهو عالم نفس بكلِّية بوسطن قرَّر استبعاد أي ذكرٍ للمحاكاة من المرجع الرائج الذي كتبه ليكون مقدِّمةً في علم النفس: "أليست في هذا التدريب دعوةٌ صريحة للإساءة بكل الطرق النفسية الممكنة؟".

وأضاف غراي: "ومن ثَم، عندما تصرَّف الحراس بالفعل بهذه الطريقة وصعَّدوا حدة سلوكهم المسيء، في ظل مراقبة زيمباردو إياهم وموافقته (بِصَمته) البادية على ما يفعلون، ألا يؤكِّد ذلك اعتقاد الخاضعين للتجربة أنَّهم يتصرَّفون كما يجدر بهم التصرُّف؟".

وَرَدَت مؤخراً اعتراضاتٌ تتبنى رأي غراي، وفي وقتٍ سابق من هذا الشهر (يوليو/تموز 2018)، دفعت هذه الآراء زيمباردو لنشر ردٍّ عليها عبر الموقع الإلكتروني للتجربة.

وصاحب النظرية يتبرأ من التدخل في الأحداث

كتب زيمباردو: "كانت تعليماتي للحراس، كما وثَّقتْها تسجيلات إعداد الحراس، هو أنَّه غير مسموحٍ لهم بضرب السجناء، لكن بإمكانهم إشعارهم بالملل، والإحباط، والخوف، والعجز، أي بأنَّا (نملُك السلطة المطلقة على الوضع وهُم لا سلطة لهم). لَم نعطهم أية تعليماتٍ رسمية أو مفصلة عن كيفية تصرُّفهم كحراسٍ فعَّالين".

وفي مقابلةٍ صحافية، قال زيمباردو إنَّ المحاكاة كانت "عرضاً لما قد يحدث"، مشدِّداً على كلمة "قد"، لبعض الناس عند تأثُّرهم بأدوارٍ اجتماعية ذات سُلطة وبالضغط الخارجي، قائلاً إنَّ منتقديه قد فاتهم القَصد الأساسي من التجربة.

يعتمد اقتناعك بحجة أيٍّ من الفريقين، إلى حدٍ ما، على موقفك ورأيك في زيمباردو. هل الأفضل أن نصِف تجربته، بالأسئلة المحيطة بها، في تاريخ علم النفس، أم أن نتجاهلها كلها باعتبارها لا تتبَع علم النفس الحقيقي؟

لكن السؤال الأهم: هل يغيِّر السياق المجتمعي الراهن والتوقُّعات في السلوك؟

ديفيد بيكر، وهو المدير التنفيذي لمركز تاريخ علم النفس بجامعة آكرون في ولاية أوهايو الأميركية، مقرِّ المتحف القومي لعلم النفس، هو أحد علماء النفس الذين لن يضطروا إلى اختيار أحد الطريقين.

قال بيكر: "نحنُ ندرِج أي شيء يمثِّل جزءاً مهماً من تاريخنا، والجدل المُثار حوله أيضاً".

وأضاف: "بالنسبة لي، علينا أخذ السؤال المحوري الذي تطرحه أية تجربة بعين الاعتبار. وفي هذه الحالة، السؤال هو: هل يغيِّر السياق المجتمعي والتوقُّعات في السلوك على نحوٍ بارز؟ وإن كانت الإجابة نعم، إذاً متى وكيف يحدث هذا؟".

تختلف المشكلات المحيطة بدراسات الحلوى والأعمال المناقِشة لمفهوم استنفاد الذات، لكنَّها تضع الباحثين في المأزق الجوهري نفسه: هل هي ذات أهمية، أم لا؟

يُمكِن حتى لعلماء النفس الأصغر سناً، وهُم مناصرون علنيون لاتجاه تصحيح الذات، أن يقعوا في فخ التناقض.

إذ قالت كاتي كوركر، وهي أستاذة مساعدة بعلم النفس في جامعة غراند فالي الحكومية بولاية ميشيغان: "مع دراسة استنفاد الذات خصيصاً، يبدو أنَّ فيها شيئاً من الصحة، نحن شخصياً نشعر بالإرهاق الإدراكي" بعد ممارسة التحكُّم في الذات.

وقالت كاتي إنَّ إعادةً صارمةً للدراسة، أُجريَت مؤخراً من قِبل أحد مؤلفي الدراسة الأصلية، وجدت دليلاً على صحة وجود هذا التأثير، إلا أنَّه كان تأثيراً صغيراً.

وأضافت كاتي: "ربما نحن لا ندرس الأمر بالشكل الصائب، لا أعلم. ربما يكون السؤال الأفضل: ما الدليل الكافي لإبطال اكتشافٍ كبير كهذا؟ أو ما الدليل اللازم حتى نبطله؟".

قيودٌ أخلاقية تقف في طريق إلقاء نظرة ثاقبة ثانية على بعض النظريات

نظراً إلى القيود الأخلاقية المعاصرة، فإنَّ إعادة إجراء تجارب قديمة بتفاصيلها ليست دوماً ممكنة والأرجح أنَّ تجربةً كتجربة سجن ستانفورد ستخضع لتعديلاتٍ كبرى حتى يُوافَق عليها في المؤسسات المعنيَّة.

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ اختبار الحلوى ودراسات استنفاد الذات يُمكِن إعادة دراستهما بسهولة، وفي تلك الحالات قد توضِّح بعض التعديلات الصورة أكثر. بالفعل، هناك بعض الأطفال ممَّن يُظهرون نزعةً مبكرة لضبط النفس يبدو أنَّها تصبح أساسيةً في تطوير شخصياتهم. ما هي الطريقة الأفضل لقياس هذه القدرة أو السِّمة؟ أيُّ مكاسبَ تجلبها مع الوقت، وأي خسائر؟

وقد يساعد إجراء تقصِّي أكثر حذراً حول "الإرهاق الفكري الشخصي" الناتج من ممارسة التحكُّم بالذات في الإجابة عن السؤال الأخير. كذلك، قد يُنقِذ مفهوم استنفاد الذات من إقصائه العلمي قبل أوانه برغم كونه مفهوماً علمياً ذا نفع.

وعملية "تنظيف منزل" علم النفس ضرورية للتقويم ولكن..

عندما نشر نوسيك أوَّل بحثٍ علمي هام بتكرار التجارب العلمية المُتنازَع عليها في عام 2015، ووجد فيه أنَّ 60% من الدراسات البارزة لم تؤتِ النتائج نفسها في المحاولة الثانية، كانت تلك هديةً للمتشكِّكين ممَّن أرادوا نبذ مجال علم النفس برمَّته (وربما العلوم الاجتماعية كلها) باعتباره أضحوكة، أو كومة من الاكتشافات العلمية غير الثابتة في مهب الريح، مثلها مثل نصائح التغذية.

لكنَّ الحقيقة غير ذلك؛ بل إنَّها العكس تماماً.

مفهوم "تنظيف المنزل" هذا، نهجٌ تقويمي حاسم في المجالات العلمية، وقد كان علم النفس مثالاً يُحتَذى به في هذا الأمر. لكن في العلم، مثله مثل الحياة، يملُك صاحب المنزل أسبابه لتوخِّي الحذر قبل أن يرمي أغراضاً كبرى من أثاث بيته في الشارع.


واقرأ أيضاً..

حقيقة علمية.. الرجال يتعافون من الإنفلونزا أسرع من النساء لهذا السبب