لا تنخدع بما تراه على وجوه الآخرين فالحقيقة مختلفة تماماً.. تفاصيل عن دراسات مذهلة تفسر معاني تعابير وجوهنا

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/24 الساعة 14:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/04/16 الساعة 08:14 بتوقيت غرينتش

بينما كان الطبيب النفسي كارلوس كريفيلي يُجري بحوثاً على المشاعر وتعابير الوجه في بابوا غينيا الجديدة في عام 2015، اكتشف شيئاً مدهشاً.

إذ عَرَض على مجموعة من الناس من جزر تروبرياند صوراً للشكل التقليدي للوجه الغربي الخائف، ذي العيون المتسعة، وفاغر الفم، ثم طلب منهم تعريف ما رأوه. وبدلاً من أن يروا الوجوه خائفة، رأوها متحديةً عدوانية.

 

بعبارةٍ أخرى، ما نظنُّ أنه تعبيرٌ عن الخوف عند كل البشر ليس كذلك في الحقيقة. ولكن إذا كان لدى التروبريانديين إدراكٌ مختلف لتعابير الوجه، فما الذي يمكن أن يعنيه هذا؟

تعابير الوجه تعكس نياتنا لا مشاعرنا

تقول إحدى النظريات الناشئة التي تلقى تأييداً متزايداً، إنَّ تعابير الوجه لا تعكس مشاعرنا. وبدلاً من أن تبيِّن قراءة موثوقة لحالتنا الشعورية، تُظهر نيَّاتنا وأهدافنا الاجتماعية.

وقال ألان فريدلوند، أستاذ علم النفس في جامعة سانتا باربارا بولاية كاليفورنيا الأميركية، ومؤلفٌ مشارك في دراسةٍ حديثةٍ مع الطبيب كريفلي يطرحان فيها رؤية أنفع بشأن تعابير الوجه، إنَّ الوجه يتفاعل "كإشارة مرورٍ تؤثِّر في الطريق الذي يمر بجوارها. فوجوهنا وسائل لرسم مسار التفاعلات الاجتماعية".

ليس هذا من أجل القول إننا نحاول خداع الآخرين بتعابير وجوهنا (مع أنَّنا ربما نفعل ذلك في مراتٍ متباعدة). فابتسامتنا وتجَهُّمُنا قد يكونان تلقائيين.

وليست مرآةً لِمَا نشعرُ به

لكنَّ تعابيرنا ليست مرآةً لما يختلج في نفوسنا، بل يمكن اعتبارها إشارةً نرسلها بشأن ما نرغب في حدوثه. وعلى سبيل المثال، فتعبير وجهك المفضل للتعبير عن "الاشمئزاز" قد يُظهر أنَّك لست سعيداً من سير الحوار الجاري، بينما تريده أن يعبَّر عن شيء آخر.

قالت بريدغت وولر، أستاذة علم النفس التطوري في جامعة بورتسموث البريطانية: "هذا هو السبب الوحيد الذي يفسر تطور تعابير الوجه". وأضافت أنَّ الوجوه دائماً ما "تعطي نوعاً من المعلومات المهمة والمفيدة للمُرسل والمُستقبِل".

ومع أنَّ هذه النظرية قد تبدو منطقية، فقد ظهرت متأخرة

تعد فكرة أنَّ العواطف أساسية ومميزة وتظهر على وجوهنا راسخةً بعمقٍ في الثقافة الغربية. إذ وضع اليونانيون القدامى "العواطف" في مقابل المنطق، وحدد الفيلسوف اليوناني رينيه ديكارت في القرن السابع عشر ست عواطف رئيسية تشوش على التفكير المنطقي.

ثم ربطها الفنان الفرنسي تشارلز لوبرون بالوجه، موضِّحاً "تكوين الوجه الصحيح من الناحية التشريحية، والسليم من الناحية التعبيرية لكل عاطفةٍ من العواطف الديكارتية"، على حد تعبير كريفيلي وفريدلوند.

وفي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، بدأ البحث العلمي يؤيد فكرة أنَّ قلة فقط من العواطف الأساسية يمكن فهمها على مستوى العالم عبر تعبيرات الوجه.

وفي دول مختلفة في جميع أنحاء العالم، طرح الباحث بول إيكمان أسئلةً على مشاركين في دراساته لمطابقة تعبيرات الوجه بالعواطف أو السيناريوهات العاطفية. وبدا أنَّ دراسته تشير إلى أنَّ أشخاصاً من جميع الثقافات استطاعوا التعرُّف على بعض التعبيرات، وما يناظرها من مشاعر. (وكانت تلك "العواطف الرئيسية" هي السعادة والدهشة والاشمئزاز والخوف والحزن والغضب).

وباتت التركة التي خلَّفتها نظريات إيكمان منتشرة في كل مكان: من ملصقات "المشاعر" التي نراها في رياض الأطفال، وتحتوي على رسومٍ كرتونية تحمل وجوهاً باسمة وأخرى عابسة، إلى برنامج الحكومة الأميركية المصمم للتعرف على الإرهابيين المحتملين.

بيد أنه دائماً ما كان هناك من ينتقص من وجهة النظر هذه. ومن بين هؤلاء المنتقصين مارغريت ميد، عالمة الاجتماع الأميركية التي كانت تؤمن بأن تعبيرات وجهنا سلوكيات نتعلمها. وكذلك كان فريدلوند الذي شارك في بداية مسيرته المهنية في كتابة مقالين مع إيكمان، قبل أن يتَّقد ذهنه بفضل أفكار إيكمان.

الوجه الخائف ضاحكاً

ينتقد بحثٌ جديدٌ عمودين أساسيين من أعمدة نظرية العواطف الأساسية: الأول هو فكرة أن بعض العواطف مشتركة بين جميع الناس في كافة أنحاء العالم، وأنَّ الجميع قادرون على التعرُّف عليها، والثاني هو الاعتقاد بأن تعبيرات الوجه تعكس هذه العواطف بثقة.

وقالت ماريا غيندرون، الباحثة في علم النفس بجامعة نورث إيسترن، التي ستنضم قريباً إلى هيئة التدريس في جامعة ييل: "إنهما نقطتان مختلفتان يخلط العلماء بينهما فعلاً".

يتضمن هذا البحث الجديد آخر أعمال كريفيلي، فقد قضى شهوراً وهو منغمسٌ مع التروبريانديين من أبناء بابوا غينيا الجديدة، وكذلك قبائل المواني من أبناء موزمبيق. واكتشف أنَّ المشاركين في الدراسة من أبناء السكان الأصليين للمجموعتين المذكورتين لم يُرجِعوا تعبيرات الوجه إلى وجود عواطف لدى البشر كما فعل الغربيون.

ولم تقتصر التجربة على تعبيرات الوجه الخائف. فحين عُرِض على التروبريانديين وجهٌ مبتسم، استخدمت فئة قليلة منهم فقط كلمة "سعيد" لوصفه؛ بينما قال نصف من طُلِب منهم وصف الوجه إنَّه وجه "ضاحك"، وهو وصف يتعلَّق بالفعل أكثر مما يتعلق بالشعور. ووصف العديد ممن سُئِلوا الوجه الباسم بأنُّه يظهر "سحر الانجذاب"، وهي عاطفة لا يعرفها سوى أبناء تروبرياند، يصفها كريفيلي بأنها "سحرٌ منتشٍ"، أو شعور يعتري المرء حين يؤثر فيه السحر تأثيراً إيجابياً.

حتى إنهم لا يعرفون المشاعر بل الأفعال

ولاقت ماريا ردود فعل مشابهة، حين درست مجموعاتٍ أخرى من السكان الأصليين، من بينهم قبائل الهيمبا في ناميبيا، والهادزا في تنزانيا. وحين طُلِب من أفراد المجموعتين وصف تعبير وجه بعباراتهم الخاصة، مالوا إلى تجنب أوصاف مثل "سعيد" أو "حزين". وركزوا بدلاً من ذلك على أفعال الشخص المعروضة صورته أمامهم (بوصفه أنه يضحك أو يبكي)، أو استنتاج أسباب لتعبيرات الوجه هذه (مثل "شخصٌ ما توفي").

خلاصة القول إن كلا الباحثين لم يجد دليلاً على أن ما وراء تعابير الوجه -بما في ذلك ما إذا كان هذا التعبير نابعاً من عاطفة دفينة أم لا- أمرٌ مفهومٌ بالسليقة أو على مستوى العالم.

ومما زاد الطين بِلة أنه حتى حين تفسر تعبيرات الوجه على أنها تعكس شعوراً بعينه، فإنها قد تُظهر عاطفة غير التي نشعر بها فعلاً.

ففي تحليلٍ أُجرِيَ عام 2017 لحوالي 50 دراسة، انتهى الباحثون إلى أن أقلية فقط من وجوه الناس تعكس مشاعرهم الحقيقية. وقال رينير ريزينزين أحد المشاركين في التحليل، إنَّه كان هناك استثناء قوي واحد فقط: الشعور بالسلوى الذي كان يفضي على الدوام تقريباً إلى الابتسام أو الضحك.

الخوف الآن من الروبوتات وتعاملها مع تعبيرات وجوهنا

تردّد ريزينزين في تفسير ما تعنيه تلك النتائج، إذ قال مازحاً: "أنا واحدٌ من العلماء الذين يتبعون الطراز القديم، ويجرون الأبحاث فقط". غير أنه يشعر فعلاً أن هناك أسباباً تطورية جيدة تدفعنا إلى عدم الكشف عما في دواخلنا إلى الآخرين: "هذا أمرٌ لا يعمل لمصلحتنا".

فإذا كانت تعابير وجهنا لا تعكس في حقيقة الأمر ما نشعر به، فستنتج عواقب عديدة.

إحداها تتجلى في مجال الذكاء الاصطناعي، وتحديداً الروبوتات؛ إذ قال فريدلوند: "عددٌ لا بأس به من الناس يدرب الذكاء الاصطناعي والروبوتات الاجتماعية باستخدام تلك الوجوه "الإعلانية" التقليدية. فإذا عبس شخصٌ ما في وجه أحد الروبوتات مُظهِراً شيئاً بخلاف التعاسة، فقد يُقدِّم الذكاء الاصطناعي رداً خاطئاً.

وقال فريدلوند: "ليس ثمة طريقة للتكهن بما ينبغي للروبوت الرد به، حين يرى وجهاً مبتسماً أو وجهاً غاضباً. يجب أن تملك قدراً من المعرفة بموقف هذا الشخص منك، وتاريخ علاقتكما معاً، قبل أن تفسر وجهه".

ويشعر فريدلوند، الذي يعمل مستشاراً لشركات تعمل على تطوير الذكاء الاصطناعي، أن استخدام الذكاء الاصطناعي المُدرَّب على استخدام إشارات سياقية لفهم تعبيرات الوجه سيكون أكثر فاعلية.

وبالنسبة لمعظمنا، ربما يكون للبحث الجديد أثرٌ كبيرٌ في كيفية تفسيرنا للتفاعلات الاجتماعية. ويبدو أنه ربما سيكون بوسعنا تحسين التواصل إذا نظرنا في الوجوه، ليس باعتبارها مرآة لمشاعر خفية، بل باعتبارها تحاول جاهدةً التحدُّث إلينا.

الحل إذاً تعاملوا مع الوجوه كتعاملكم مع الإعلانات في الطرق

وقال فريدلوند: "ينبغي أن يقرأ الناس الوجوه كما يقرأون لافتات المرور في الشارع. فالأمر يشبه مُحوِّلاً على طريق سكة حديد: نحدد وجهتنا في المحادثة على أساسه".

هذا العبوس على وجه صديقتك ربما لا يكون غضباً حقيقياً، بل ربما تحاول إقناعك فقط بوجهة نظرها.

وهذا التجهم على وجه ابنك لا يلزم أن يكون حزناً؛ وإنما يمكن أن يكون مجرد رغبة منه، في أن تؤكد له على شيء ما، أو أن تحميه من موقفٍ مزعج.

ولنأخذ الضحك مثالاً؛ إذ قالت بريدغت: "التوقيت الذي نضحك فيه والطريقة التي نضحك بها داخل موقف اجتماعي أمران بالغا الأهمية". فالضحك في وقت غير مناسب يمكن ألَّا يعكس ابتهاجك بما يحدث، بل ربما يعكس أنك غير منتبهٍ بما يكفي للمحادثة، أو ربما حتى يكون مؤشر عداوة.

بينما يرى كريفيلي أنَّ وجوهنا ربما تعكس أكثر من ذلك. فهو يقارننا بالعرائس ذات الخيوط، مع اعتبار تعبيرات وجهنا "خيوطاً أو حبالاً غير مرئية نحاول استخدامها لخداع الآخرين".

وبالطبع هذا الشخص الآخر يحاول خداعنا بدوره. فنحن مخلوقات اجتماعية رغم كل شيء.

علامات:
تحميل المزيد