من شوارع كينيا إلى محاكم كولومبيا وأرياف الهند.. هذه المهن ترفض أن تموت!

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/03 الساعة 07:53 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/03 الساعة 09:15 بتوقيت غرينتش
Pensive vintage woman with hand on chin, typing on typewriter and looking for inspiration

بمناسبة عيد العمال، نشرت وكالة الصحافة الفرنسية AFP، عن رجال ونساء من كافة أنحاء الكرة الأرضية، يقاومون مخاطر زوال وظائفهم، بعد أن أصبحت شحيحة الوجود، سيما مع التحول الذي تُحدثه التقنية في المجتمعات.

فهؤلاء الناس لا يشكون من المشقة التي تُسببها وظائفهم الصعبة؛ بل يخشون أن تزول هذا المشقة.

كاتبة الآلة الكاتبة: الإنترنت عدوّي

لا تزال تُدخل الأوراق البيضاء في آلتها الكاتبة من طراز Remington Sperry وتكتب عليها.

قضت كانديلاريا بينيلا دي غوميز آخر 40 سنة من عمرها تكتب ألوفاً لا حصر لها من المستندات، كفردٍ من جيش كَتَبة الشوارع في بوغوتا، عاصمة كولومبيا.

تبلغ كانديلاريا من العمر 63 عاماً، وهي المرأة الوحيدة بين كتبة الشوارع الذين وضعوا طاولاتهم الصغيرة على الرصيف خارج مجمع مكاتب عصرية في بوغوتا.

كانديلاريا بينيلا دي غوميز تعمل في الشارع

يعمل الكَتَبة وهم يرتدون بذلاتٍ دون ربطات عنق في الهواء الطلق أسفل مظلة، ويجلسون على كراسي بلاستيكية وعلى أرجلهم الآلة الكاتبة.

كان لهؤلاء الكتبة في يومٍ من الأيام دور محوري، إذ كانت السندات العامة، ومستندات الضرائب، والعقود تخرج جميعاً من آلاتهم الكاتبة.

تعلَّمت بينيلا أصول المهنة من زوجها، حين وصلت إلى العاصمة الكولومبية في ستينيات القرن العشرين. وتقول إنَّه كان يملك مزرعة "غير أنَّ العصابات صادرتها منه. وفي بوغوتا، أخبرني أنَّ عليَّ أن أتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة… والهجاء. وعلمني (المهنة) ثم مات".

ويفخر سيزار دياز (68 عاماً) بنفسه، لأنَّه رائدٌ في مهنة انتهى بها الحال إلى أن تصبح "ملجأً" لأرباب المعاشات، الذين يتطلَّعون إلى زيادة معاشاتهم الشهرية.

ويعمل أصحاب هذه المهنة من الإثنين إلى الجمعة، ليتقاضَوا في نهاية المطاف أقل من 280 دولاراً أميركياً، وهو الحد الأدنى للأجور.

وتمكنوا من الحفاظ على بقاء المهنة حتى الآن، رغم كل ما طرأ عليها، ولكن أكبر مشكلة واجهتهم هي دخول الإنترنت إلى الساحة.

وتقول بينيلا مقرةً، "في أيامنا هذه، تطلب الأم من ابنها أن يقوم بتنزيل نموذج من على شبكة الإنترنت، وإرساله بالبريد الإلكتروني. وهذا يفسد كلَّ شيء بالنسبة لنا".

غسالة الملابس: الغسّالة الكهربائية لا تنظّف

أوشكت أصابع ديليا فيلوز أن تفقد بصماتها وملامحها من الحركة الدائمة لدعك الملابس المتسخة بالأحجار الصلبة، في مغسلةٍ حكومية قديمة للملابس في كيتو بالإكوادور.

"لا أحبُّ الغسالات، فهي لا تغسل الملابس جيداً. يمكنك دعك الملابس بشكل أفضل يدوياً"، وكان في صوتها شيء من الفخر وهي تسكب جرةً من الماء شديد البرودة من جبال الأنديز على معطف في يدها.

تعد هذه السيدة السبعينية واحدةً من قلائل لا يزالون يمارسون هذه المهنة القديمة في الإكوادور، فغسل الملابس يدوياً أصبح مهنةً نادرة بسبب انتشار استخدام غسالات الملابس داخل البيوت.

تعمل ديليا منذ ما يزيد على خمسة عقود في مغسلة إيرميتا الحكومية في مركز كيتو، وتحمل في يدها حجراً مستطيلاً، وصهريجاً من الماء، وعدة أسلاك لنشر الملابس عليها لتجف.

وتتقاضى 1.50 دولار أميركي مقابل غسل كل 12 قطعة ملابس لزبائنها الآخذين في التناقص؛ ومعظمهم ممن لا يملكون آلة غسيل في المنزل أو يفضلون غسل ملابسهم يدوياً.

وفي أحسن الأحوال يمكن أن يصل ما تجنيه إلى ما بين 3 إلى 6 دولارات يومياً.

ولا تزال هناك في كيتو خمس مغاسل حكومية على الأقل، بُنيت في النصف الأول من القرن العشرين.

وهناك أيضاً من يأتون لاستخدام المغسلة لغسل ملابسهم أو ملابس من يعملون لديهم، وجميعها أشياء لا تتقاضى المغسلة عليها أجراً.

ويعمل الجميع معاً مرةً كل شهر لتنظيف المكان وترتيبه.

ساقي المياه: كنت طفلاً يحلم أن يكون رجل أعمال

كان شح المياه الجارية في أفقر أحياء كينيا يُشكل لثمانية عشر عاماً على الأقل مصدر رزقٍ لسامسون مولي، بائع الماء في حي كيبيرا الشعبي في نيروبي.

ويقول مولي الأربعيني الذي يعول طفلين، ويزود الجزارين والمطاعم وباعة الأسماك في سوق كينياتا المكتظ بالماء: "حين كنتُ طفلاً، كنت أحلم أن أصبح رجل أعمال".

مولي، الذي يرتدي معطفاً خفيفياً أثناء العمل، يستخدم خرطوماً ليملأ ما في جعبته من صفائح سعتها 20 لتراً بالماء من ثلاثة صهاريج أسطوانية منفصلة سعتها 10 آلاف لتر. ويحمل 15 صفيحةً في المرة على عربة، وينادي في الشارع بحثاً عن الزبائن.

هامش الربح من وظيفته هذه متواضع، فهو يشتري الماء بخمسة سنتات للعبوة، ويبيعها بخمسة عشر. غير أنَّ العملية يمكن أن تُضيف إليه ما يصل إلى عشرة دولارات يومياً، وهو مبلغٌ يكفي لأن يُحدث فرقاً في حياته.

ويقول، "هذه الوظيفة غيَّرت حياتي؛ إذ أصبحتُ قادراً على إرسال أطفالي إلى المدرسة، وأنا الآن قادرٌ على دفع مصروفاتها".

غير أنَّ التطور التدريجي الذي تشهده كينيا وتوفير البنية التحتية الأساسية، بما في ذلك مواسير المياه، يعني أنَّ أيام جني الأموال باتت معدودة بالنسبة لمولي.

قائد الريكشا: سنموت إذا توقفنا عن جرِّ الركاب

يلهث محمد مقبول أنصاري ويتصبَّب عرَقاً، بينما يجرُّ عربة الريكشا عبر شوارع مدينة كلكتا المزدحمة. محمد متمرّس في هذه المهنة المرهقة المحظورة منذ زمنٍ طويل في معظم أنحاء العالم، والآخذة في التلاشي ببطء من شوارع الهند أيضاً.

تُعد مدينة كلكتا من آخر الأماكن على وجه الأرض، حيثُ لا تزال عربات الريكشا سمةً من سمات الحياة اليومية، ومع ذلك فإنَّ أنصاري ينضم لسلالةٍ تحتضر، لا تزال تكسب قوتها من هذه المهنة التي تقصم الظهر.

يجر أنصاري (62 عاماً) عربة الريكشا منذ حوالي أربعة عقود، ناقلاً البضائع والركاب بيديه تحت الأمطار الموسمية الغزيرة، ووسط الحرارة الخانقة التي تحيط بالمدينة الهندية الشرقية المزدحمة.

أعداد ممارسي هذه المهنة آخذة في الانخفاض، وستصبح عربات الريكشا قريباً جزءاً من التاريخ، بعد أن حلَّ محلها التوكتوك، والتاكسي الأصفر الشهير بكلكتا، إضافةً إلى العديد من المرافق الحديثة مثل أوبر.

ولا يستطيع أنصاري تخيّل حياة الآف من أصحاب الريكشا إذا اندثرت تلك المهنة.

وأخبر أنصاري لوكالة AFP، "إذا لم نمارس تلك المهنة، فكيف سنبقى على قيد الحياة؟ نحن لا نعرف القراءة أو الكتابة ولا يمكننا القيام بأي عمل آخر. إذ إنَّك بمجرد أن تبدأ في ممارسة تلك المهنة تُصبح هي كل شيء. هذه هي حياتنا".

في يومٍ شديد الحرارة، يشق أنصاري طريقه بمهارة وهو يجر الريكشا وسط الأسواق المزدحمة، ويتمكَّن من تجاوز زحمة المرور، بينما يتصبَّب جسده عرقاً وقميصه الداخلي مبتل، ووجهه يقطر بالماء.

يرتدي أنصاري حذاءً بسيطاً وسارنغ منقوشاً، والدليل الوحيد الحقيقي على سنه هو لحيته الطويلة البيضاء المجعدة، ووجهه الشاحب نتيجة ممارسة هذه المهنة طوال حياته.

بعد عشرين دقيقة، توقَّف وأخذ يمسح وجهه بقطعة قماش. قدَّم له الراكب كوباً من الماء، وهي لمحة لطيفة نادرة، ثم دفع له الحساب.

ويقول أنصاري، "عندما يكون الجو حاراً، مقابل كل رحلة تُكلِّف 50 روبية (0.75 دولار أميركي) سأطلب 10 روبيات (0.15 دولار أميركي) إضافية. البعض يوافق على الدفع والبعض الآخر يرفض. لكنِّني أشعر بالسعادة لكوني أجر عربة الريكشا. فأنا قادر على إطعام نفسي وعائلتي".

صانع إعلانات النيون: الحنين إلى هونغ كونغ القديمة سيعيد الزبائن لنا

لا يعم الظلام أبداً هذه المدينة، بفضل أنوار عشرات الآلاف من المصابيح التي لا تنطفئ أبداً.

يُعد صانع لافتات النيون وو تشي كاي واحداً من آخر الحرفيين في مجاله الباقين بمدينة هونغ كونغ، إذ إنه يعمل في مجال المصابيح النيون التي تتراجع جاذبيتها اليوم.

عمل تشي كاي في هذا المجال لمدة 30 عاماً، أصبحت خلالها أضواء النيون سمةً مميزة للمظهر الحضاري للمدينة، وهي عبارة عن لافتات مضيئة ضخمة تظهر أفقياً على جوانب المباني، وتعلن عن كل شيء بدءاً من المطاعم وحتى صالات لعب الماجونغ.

ولكن مع تزايد شعبية مصابيح الليد الأكثر سطوعاً، التي تبدو أسهل من حيث إصلاحها وصديقةً أكثر للبيئة، إلى جانب قرارات الحكومة بإزالة بعض اللافتات القديمة التي تُعد خطيرة، قلَّ الطلب على المتخصصين مثل تشي كاي.

بالرغم من قاعدة العملاء الآخذة في التضاؤل، فإنَّ تشي كاي البالغ من العمر 50 عاماً ما زال يمارس هذه المهنة، ويعمل في صناعة الأنابيب الزجاجية المنثور بداخلها المسحوق المشع، التي تحتوي غازاتٍ متعددة، بما في ذلك النيون أو الأرغون، إضافةً إلى الزئبق لإصدار ألوان مختلفة.

ثم يثنيها فوق موقد غاز قوي عند درجة حرارة مرتفعة تبلغ ألف درجة مئوية ليمنحها الشكل المراد.

يقول، "القدرة على ثني الزجاج المستقيم لتشكيله حسب رغبتي، ثم جعله يضيء بعدها، أمرٌ ممتع حقاً"، بالرغم من أنَّه لا يخلو من المخاطر.

يعمل تشي كاي دون ارتداء واقي أمان، وتعرض للحرق والقطع من الزجاج الذي يتشقق وينفجر أحياناً.

ثم يضيف بنبرةٍ فلسفية، "التجارب المؤلمة هي التي لا تُنسَى".

اعتاد والده على تسلق سقالات الخيزران الشهيرة بهونغ كونغ، أثناء تركيب لافتات النيون في جميع أنحاء المدينة.

ونظراً لإيمانه بأنَّ أعمال التركيب تُشكل خطراً كبيراً على ابنه، بدلاً من ذلك شجَّعه على تعلم صناعة اللافتات في سن المراهقة. أصبح تشي كاي واحداً من ضمن حوالي 30 من سادة هذه المهنة في هونغ كونغ، حتى في أيام ذروة اللافتات النيون.

ويضيف أنَّه بالرغم من أنَّ الطلب على لافتات النيون الآن أصبح أقل بنسبةٍ كبيرة عن أيام ذروتها في الثمانينيات، فقد ظهر اهتمام وحنين متجدّدان لتوهّجها اللطيف الذي خلدته الأفلام المثيرة للكثير من الأحاسيس التي أخرجها ونغ كار واي، المنحدر من هونغ كونغ، والحائز عدداً من الجوائز الدولية.

ويطلب الآن بعض عملاء تشي كاي بعض اللافتات لأغراض التزيين الداخلية.

ويكمل، "عملتُ طوال حياتي مع أضواء النيون. لا أستطيع أن أفكر في أي شيء آخر يمكن أن يكون ملائماً أكثر لي".

المصور القديم: أصبحنا أقل حساسية تجاه الواقع 

كاميرا طراز أوليمبوس عمرها 50 عاماً، يصنع المصور الفنزويلي رودريغو بينافيديس "السحر" داخل غرفة مظلمة صغيرة اقتطعها من منزله.

ورغم أنَّه يعمل بمعداتٍ وتقنيات اختفت تقريباً، فهو مستمر في عمله كما لو كان التصوير الرقمي لم يظهر بعد. ويقول عنه: "لا يثيرني على الإطلاق".

مستخدماً مرحاضه كمعمل مؤقت، يصنع بينافيديس الصور السلبية، ويحولها لنسخ سوداء وبيضاء. وما زال ظهور الصورة ببطء بعد ملامستها للكيماويات يذهله في كل مرة.

ويقول عن عمله، "حاولتُ دائماً أن أكون مقتصداً في مواردي، فعلتُ ذلك، وسأستمر في فعل ذلك"، ومضى في مدح كاميرا أوليمبوس 35 إس بي اليدوية، التي تُستخدم فقط بكرة فيلم، ولا تحتاج إلى بطاريات.

وُلِدَ بينافيديس في كاراكاس منذ 58 عاماً، وأصبح متابعاً شغوفاً بمجموعة المصورين إف/64، التي تؤيد الصور حادة التركيز غير المُعدَّلة للمواد الطبيعية.

ويقول إنَّ التكنولوجيا قلبت مجال التصوير، وحولته إلى عمل "خيالي".

ويضيف، "أصبحنا أقل حساسية تجاه الواقع، الذي هو أكثر إثارة من الخيال".

جُمِعَت 400 صورة صوَّرها على مدار 30 عاماً في كتابٍ عن سهول فنزويلا، وهناك صورٌ أخرى مكدسة في غرفة معيشته، في كومةٍ من الصور يصل ارتفاعها مترين.

ويقول عنها بينافيديس، الذي يصف نفسه بأنَّه مصور وثائقي يمارس مهنةً على وشك الانقراض، "هذه الصور كأطفالي".

علامات:
تحميل المزيد