أين ذهبت ذكريات سنوات طفولتك الأولى؟ تفسيرات علمية تشرح لماذا يصعب عليك تذكرها

لا يستطيع أغلبنا استدعاء ذكريات طفولته قبل عمر الخمس سنوات، أو حتى أكثر من ذلك، فنحن لا نملك ذكريات واضحة عن السنوات الأولى من حياتنا

عربي بوست
تم النشر: 2018/04/14 الساعة 15:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/04/14 الساعة 15:33 بتوقيت غرينتش

لا يستطيع أغلبنا استدعاء ذكريات طفولته قبل عمر الخمس سنوات، أو حتى أكثر من ذلك، فنحن لا نملك ذكريات واضحة عن السنوات الأولى من حياتنا، وتعرف هذه الظاهرة باسم "فقدان ذاكرة الطفولة".

ربما لديك مشاهد بعينها تحتفظ بها في ذاكرتك، مثل تذكرك حينما نام أبواك وذهبت لحوض السمك وأخرجت ثلاث سمكات ووضعتها في الثلاجة، على أمل أن تطهوها والدتك غداً، ثم تعرضت للتوبيخ لأن السمكات الثلاث ماتت بعد دقائق، وهي مخصصة بالأساس للزينة وليس للطعام!

عندما تحاول تذكر مشاهد كذلك تستطيع ربما استدعاء الموقف كلمحة عامة، لكن لا تذكر غالباً ما فكَّرت فيه وما شعرت به حينها، يبدو الأمر صعباً بالفعل، فأين ذهبت هذه السنوات؟

في أي عمر تبدأ ذكرياتك.. هل تعرف الإجابة؟

تقول عالمة نفس الأطفال، باتريشيا باور، وهي خبيرة في مجال تطوير الذاكرة، إن ذكريات البشر لا تمتد غالباً لما قبل الثالثة والنصف، وقبل ذلك يبدو الأمر مشوشاً ومتداعيا، وهناك مفارقة مهمة هي أن الأطفال الصغار جداً يظهرون دلائل على قدرتهم على تذكر الأحداث في حياتهم، لكن كبالغين لدينا نسبة محدودة فقط من هذه الذكريات.

ويعتقد العلماء حالياً أنه للمرور إلى مرحلة البلوغ فإن الدماغ يجب أن يتخلى عن الكثير من ذكريات الطفولة، لأننا ننضج وننمو بفقدان الكثير من ذكريات الطفولة واستبدالها بذكريات أخرى وقصص أيضاً.

اللغة أيضأ تلعب دوراً، إذ يقترح بعض العلماء أن الذكريات تنشأ بالقصص والحكايات، ونظراً لقدرات الطفل اللغوية المحدودة وضعف قدراته على التعبير عن الحدث في زمنه، فإن كثيراً من الذكريات التي لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات تضيع، ولا يمكن الاحتفاظ بها بسبب غياب "وعاء اللغة" الحافظ لها.

لذلك تحافظ القصص العائلية على موقعها في الذاكرة رغم مرور الوقت، بسبب تكرار تداولها، ويختلف ذلك بين الثقافات التي تحافظ فيها الأسر على الترابط العائلي وبين الثقافات التي تروج للإستقلالية.

ما الذي يحدث في الطفولة؟

أطلق الطبيب النمساوي سيغموند فرويد مصطلح "نسيان ذكريات الطفولة" في أوائل القرن العشرين، وقال إن البالغين نسوا سنوات حياتهم الأولى في عملية قمع الذكريات المقلقة المتعلقة بـ"الصحوة الجنسية".

في حين رأى عدد قليل من علماء النفس ميزة في هذا الادعاء، كان التفسير الأكثر قبولاً لفقدان الذاكرة لدى الأطفال هو أن الأطفال ببساطة لم يتمكنوا من تشكيل ذكريات مستقرة حتى سن السابعة، على الرغم من وجود القليل من الأدلة لدعم هذه الفكرة.

وعلى مدى ما يقرب من 100 عام، افترض علماء النفس أن ذكريات الطفولة لم تستمر لأنها لم تكن دائماً أولوية للإنسان حينما يكبر.

وفي أواخر الثمانينيات، وهي الفترة التي تعتبر بداية الإصلاح في علم نفس الطفل. بدأ علماء النفس باختبار ذاكرة الرضع عن طريق القيام بسلسلة من الإجراءات -مثل بناء لعبة مكعبات بسيطة وهدمها- ثم الانتظار لمعرفة ما إذا كان الطفل يستطيع تقليد الإجراءات بالترتيب الصحيح، بعد تأخير يتراوح بين الدقائق لأشهر.

وقد كشفت تجربة واحدة تلو الأخرى أن ذكريات الأطفال (3 سنوات) والأصغر سناً تبقى بالفعل، ولكن بشكل محدود.

فعند ببلوغ 6 أشهر من العمر، تدوم ذكريات الأطفال لمدة يوم واحد على الأقل، وفي 9 أشهر تدوم، لمدة شهر. وفي العمر سنتين، لمدة عام، وهكذا..

وفي دراسة تاريخية أجريت في عام 1991، اكتشف باحثون أن الأطفال البالغين من العمر أربعة أعوام ونصف العام يمكنهم تذكر ذكريات مفصلة من رحلة إلى عالم ديزني قبل 18 شهراً.

ثم في عمر 6 سنوات تقريباً، يبدأ الأطفال في نسيان العديد من هذه الذكريات المبكرة! وفي تجربة أجرتها باور وزملاؤها عام 2005، تذكر الأطفال البالغون من العمر خمسة أعوام ونصف العام أكثر من 80% من تجاربهم في عمر 3 سنوات، في حين أن الأطفال الذين يبلغون من العمر سبعة أعوام ونصف العام يتذكرون أقل من 40%.

وقد ظهرت هنا مفارقة في موضوع فقدان الذاكرة في مرحلة الطفولة، إذ يمكن للرضع بناء الذكريات والوصول إليها في سنواتهم الأولى من الحياة، إلا أن معظم هذه الذكريات تختفي في نهاية المطاف بمعدل يتجاوز النسيان المعتاد للماضي الذي نعيشه كبالغين.

لذا، يعتقد بعض الباحثين أن الذكريات الثابتة تتطلب لغة أو إحساساً بذاتك، وكلاهما يفتقره الأطفال الرضع. ولكن على الرغم من أن التواصل اللفظي والوعي الذاتي يعززان بلا شك الذكريات البشرية، فإن غيابهما لا يمكن أن يكون التفسير الكامل لفقدان الذاكرة لدى الأطفال.

بعد كل شيء، بعض الحيوانات التي لديها أدمغة كبيرة ومعقدة بالنسبة لحجم جسمها -مثل الفئران والجرذان- ولكن ليست لديها لغة، ويكون لها نفس مستوى الوعي الذاتي لدينا، وتفقد أيضاً الذكريات التي تصنعها في مرحلة الطفولة.

لماذا يحدث النسيان.. التكيّف والتخبئة هما الإجابة

بين الولادة والمراهقة، يقوم الدماغ بتكثيف دوائره ومساراته الكهربية مع الأنسجة الدهنية، لجعلها أكثر قدرة على توصيل ونقل الإشارة العصبية.

وفي طفرة هائلة للنمو، يبني الدماغ جسوراً جديدة لا يمكن عدها بين الخلايا العصبية، وفي الحقيقة لدينا روابط أكثر بكثير بين خلايا المخ في سنواتنا الأولى أكثر من مرحلة البلوغ، لكن يتم تقليمها وتنحت منها خبراتنا وجيناتنا الدماغية، ولولا الكتلة الدماغية الرقيقة عند الأطفال فلن يتمكنوا من التعلم بالطريقة السريعة كما يفعلون.

أما في مرحلة ما بين الولادة حتى بداية المراهقة، لا يزال الدماغ يضع بعضاً من دائرته الأساسية، ويكثف مساراته الكهربائية مع الأنسجة الدهنية لجعلها أكثر مواصلة.

ثم في طفرة هائلة من النمو، ينبت الدماغ جسوراً جديدة لا تعد ولا تحصى بين العصبونات. في الواقع، لدينا روابط أكثر بكثير بين خلايا المخ في سنواتنا الأولى أكثر مما ننتهي في مرحلة البلوغ؛ يتم تقليم معظمها بعيداً.

كل تلك الكتلة الدماغية الزائدة هي الطين الرطب الذي تنحت منه جيناتنا وخبراتنا الدماغ، ليتناسب مع بيئته الخاصة. وبدون هذه العقول الرقيقة، لن يتمكن الأطفال الصغار من التعلم بقدر ما يمكنهم فعله.

وكما اكتشف الفريق العلمي الذي درس الأمر، فإن قدرة التكيف لها تكلفة، فبينما يتطور الدماغ خارج الرحم فإن الشبكة الكبيرة والمعقدة من مناطق الدماغ المتباينة التي تخلق ذكرياتنا وتحافظ عليها لا تزال قيد الإنشاء، ولهذا فهي ليست قادرة على تكوين الذكريات كما ستكون في مرحلة البلوغ.

ونتيجة لذلك، فإن الذكريات التي تصنع في السنوات الأولى من عمر الإنسان، تعد الأقل استقراراً وحفظاً على الإطلاق، ويمكن أن تتفكك وتنسى بسهولة مع التقدم في العمر.

أما التفسير الثاني لنسيان ذاكرة الطفولة، أتى بعد نشر فانكلاند وزملاؤه دراسة تمت على فئران تجارب، تشير لطريقة التخلي عن ذكريات الطفولة، عن طريق تخبئتها بدلاً من تحللها أو نسيانها.

ويمكن تلخيص الفكرة بأن الدماغ أثناء نموه يقوم بتكوين دوائر وتشابكات جديدة تحل محل الدوائر القديمة التي تحتوي على ذكريات سابقة.

نحن نعرف أن منطقة "الحصين-Hippocampus" في الدماغ ضرورية للذاكرة، ويعتقد العلماء أن تكوين خلايا عصبية في الحصين البالغ يساهم في تعزيز قدرات التعلم والتذكر، لكن ذلك يستلزم قدراً من النسيان. لذلك فإن المعدل المرتفع للتكوّن العصبي في مرحلة الطفولة كان مسؤولاً جزئياً عن فقدان الذاكرة لدى الأطفال.

وإعادة هيكلة دوائر الذاكرة تعني أنه في حين أن بعض ذكريات طفولتنا اختفت بالفعل، فإن البعض الآخر يستمر بطريقة خافتة، وقد أظهرت الدراسات أن الناس يستطيعون استعادة بعض ذكريات الطفولة على الأقل من خلال الاستجابة لمطالب معينة، وهي الحفر أو التنقيب عن أقدم ذكريات ترتبط بكلمة "حليب" مثلاً، أو تخيل منزل أو مدرسة أو مكان محدد مرتبط بعمر معين، والسماح للذكريات ذات الصلة بالتمايز والاستدعاء من تلقاء نفسها.