في غرفة صغيرة لا تتعدى مساحتها الأمتار الأربعة، أخذ الشاب يغما (اسم مستعار) في الاستعداد لاستقبال زبائنه السريين الذين يريدون أن يرسموا وشوماً على أجسادهم، رغم أن ذلك قد يعرضهم لعقوبات، قد تكون جسدية، لكنها لم تستطع -رغم قسوتها- وقف تمدد الشغف بالوشوم بين الشباب الإيراني.
وقف يغما أمام طاولة صغيرة عليها أوراق بيضاء وبعض أقلام الرصاص. وتناول أحد الأقلام، ثم التقط هاتفه لتشغيل بعض الموسيقى، وبدأت يداه تعمل بسرعة وإتقان لرسم صورة أحد الوجوه المستمدة من الحضارة الفارسية القديمة.
بعد قرابة 20 دقيقة، اعتدل الشاب وهو يرمق الورقة بنظرة تحمل الكثير من الرضا، ثم توجه لأحد الرفوف الذي تنتشر عليه عشرات الزجاجات الملونة، وبدأ يلتقط بعضها ويقوم بإضافة بعض الحبر الملون منها إلى ما يشبه الحقن المعدنية الكبيرة. هو الآن في انتظار أحد الزبائن ممن يرغبون في رسم هذه الصورة على كتفهم اليمنى.
"كل شيء بإيران يتم في الخفاء حتى رسم الوشم، قد يبدو الأمر صعباً للبعض، لكن بالنسبة لي أراها مقاومة ممتعة"، هكذا يصف يغما عمله كأحد رسامي الوشم (التاتو) في طهران.
مجرمون
في إيران، كان الوشم مرتبطاً بأفراد العصابات والمجرمين والسجناء، فعندما كانت الشرطة تعتقل أحدهم كانت تطوف به في الساحات العامة -وهي عادة سائدة بالبلاد- وتكشف وشمه دليلاً على جرمه. ولكن في السنوات القليلة الماضية، أصبح الوشم أكثر شعبية بين الشباب صغير السن، الذين استغنوا عن الكلمة الغربية "تاتو" واستبدلوها بالمرادف الفارسي "خلكوبي".
ومع ذلك، فإن هذا ازدهار الوشم لا يزال قابعاً "تحت الأرض"، فقد انضم منذ عدة سنوات، إلى قائمة الممنوعات والقيود، بعد ملاحظة السلطات انتشاره بين الشباب.
يغما، (26 عاماً)، هو خريج كلية الفنون، وطوال حياته كان مولعاً بفن الرسم على الجسد. وعندما ذهب إلى دبي في إحدى العطلات، تعلَّم هناك رسم الوشم. هو يملك استديو خاص به في منزله، وأصبح لديه الكثير من الزبائن.
إذ يبدو أن كثيراً من رسامي الوشم اكتسبوا مهاراتهم في الخارج، بالإمارات العربية المتحدة أو في كردستان العراق، ثم عادوا لتعليم الآخرين.
في عام 2016، أثارت الممثلة الإيرانية ترانه عليدوستي ضجة كبيرة في بلادها، وذلك خلال حضورها مؤتمراً صحفياً، للاحتفال بحصولها على جائزتين بمهرجان "كان" السينمائي الدولي، في نسخته الـ69، حيث رصدت الصور وجود "وشم" على ذراعها.
وبمجرد انتشار الصور، قاد المتشددون في إيران حملة انتقادات قوية، على الممثلة الإيرانية، (32 عاماً)، قائلين إن هذا الرمز يعني تأييد الإجهاض وضد العائلة.
الوشم والدعاية الصعبة في المجتمع الإيراني
الترويج للوشوم ليس أمراً يسيراً في هذا البلد المشهور بشرطته المخصصة للأخلاق، ويقوم يغما عادةً بذلك من خلال عدة حسابات على الشبكات الاجتماعية.
ولكنَّ العاقبة قد تكون وخيمة؛ إذ يروي تجربة شخصية مريرة، قائلاً: "في أحد الأيام، وجدت شرطة الأخلاق تقتحم الاستوديو الخاص بي، واقتادوني إلى قسم الشرطة كأنني قاتل أو سارق".
تم اتهام يغما بتهمة مزاولة عمل منافٍ للآداب العامة وتعاليم الجمهورية الإسلامية، وتم الحكم عليه بالسجن 10 أشهر.
في خضم ذكريات الاعتقال، وصل الزبون المنتظر، رحّب به يغما وهو مستمر في رواية قصته، قائلاً إنه تلقى إهانات كثيرة في أثناء احتجازه بقسم الشرطة. طلبوا منه الإفصاح عن أسماء وعناوين زبائنه، ولكنه رفض.
رسم الوشم في الشريعة والقوانين
في قانون العقوبات الإيراني، لا توجد عقوبة لمزاولة مهنة رسم الوشم أو عقوبة لمن بجسده وشم، لكن السلطات تبرر هذا المنع بمخالفته للشريعة، في موقف يفسره البعض بأنه يستند إلى تفسير متشدد للإسلام، يُستدعى خاصة عندما يتعلق الأمر ببعض مظاهر الموضة الغربية، خاصة أن قائمة الممنوعات الاجتماعية تطول لتشمل عدة مظاهر أخرى، فقط لأنها تعتبر تقليداً للغرب.
اللافت أن موقع المرجع الشيعي علي السيستاني، الإيراني الأصل، المقيم في النجف بالعراق، يردُّ على سؤال عن حكم الوشم بأنه يجوز، ولكن الوشم *في حد ذاته- ليس أمراً مستحسناً، وهناك روايات في ذمه.
ومع أنه لا توجد إحصاءات بعدد أتباع أو مقلِّدي كل مرجع شيعي، فإنه يُعتقد أن السيستاني أكثرهم اتباعاً، مع ملاحظة أن لإيران ظروفاً استثنائية، في ظل وجود مرجعية "قم" بها، إضافة إلى سيطرة نظرية ولاية الفقيه على السلطة، التي يمثلها حالياً مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي.
المفارقة الأكبر هي الردُّ الذي قدمه موقع راديو إيران العربي على سؤال بشأن حكم رسم الوشم الدائم على الجسم في أماكن الوضوء وغيرها؛ إذ ينقل الموقع عن خامنئي والسيستاني قولهما: "لا إشكال في رسم الوشم الدائم، ولا يُعد من الموانع الشرعية للغسل والوضوء. ثم ينقل عن خامنئي تحديداً قوله إن الوشم جائز مطلقاً، وإذا كان تحت الجلد فلا يضر بالوضوء والغسل، وكذا لو كان مجرد لون".
وتثير هذه الإجابة تساؤلاً عن سرِّ تحفُّز السلطات الإيرانية ضد الوشم رغم فتاوي اثنين من أهم مراجع الشيعة واللذين يبدوان أكثر تساهلاً من فقهاء السنَّة.
وفي ظل غياب نص شرعي أو قانوني قاطع حول العقوبة، فإنه عندما يتم القبض على رسام الوشم، يُترك أمر العقوبة للقاضي، وفي الأغلب تكون العقوبة ما بين الجلد والسجن عدة أشهر (كعقوبة تهذيبية) أو الغرامة المالية.
توقف يغما عن الحديث الآن، فقد بدأ رسم الوشم، وهو يحتاج إلى تركيز تام في هذه اللحظة.
وشم النساء أكثر سرية وخطورة
شيرين، شابة إيرانية تبلغ 25 عاماً، وتعمل مُعلّمة في إحدى المدارس الابتدائية. رسمت 4 وشوم منذ قرابة عام. لكنها حرصت على أن تكون جميعها في أماكن غير ظاهرة من جسدها.
كانت شيرين تريد الحصول على وشم بيدها، لكنها تخاف من شرطة الأخلاق (الباسيج). فكرة الخوف منهم تضايقها، تقول: "هذا جسدي أنا، ولدي مطلق الحرية في فعل ما أريد به، لكن بإيران ليس لدينا حقوق لأي شيء".
ولم تكتفِ الإيرانيات، مثل شيرين، بتحدي الحظر على رسم الوشوم بأجسادهن؛ بل دخلن بدورهن هذه المهنة رغم مخاطرها، بعد أن تعلمنها على أيدي ذوي الخبرة، سواء داخل أو خارج إيران، ثم يقمن بدورهن بتدريب آخرين وهكذا.
فقد حصلت شيرين -على سبيل المثال- على وشومها التي تخفيها بواسطة رسامة إيرانية، تعمل في الخفاء بأحد صالونات التجميل.
هذه الرسامة تم إلقاء القبض عليها عند تفتيش الشرطة الصالون والعثور على أدوات الرسم والأحبار الخاصة بها.
مجوسي ومتآمر
تتعامل السلطات الإيرانية بحساسية شديدة مع موضوع الوشم، وتلجأ إلى أساليب متعددة لتنفير مواطنيها منه، لا تقتصر على الأمني والديني؛ بل تتضمن أيضاً إبراز ما تقول إنه مخاطر صحية لهذه العادة.
ففى عام 2013، أصدر المجلس الأعلى للصحة، التابع لوزارة الصحة الإيرانية، بياناً ينص على أنه سيتم إغلاق جميع صالونات التجميل التي تقدم خدمة رسم الوشم والمكياج الدائم (تاتو الحواجب والشفاه).
وحرص المجلس، في بيانه، على ربط عمل الوشم بأمراض سرطان الجلد والإيدز والإصابة بفيروس التهاب الكبد الوبائي، في خطوة منه لترهيب الإيرانيين من القيام بهذا الأمر.
تناولت الإذاعة الإيرانية، في أحد برامجها، آثار الوشم الصحية، والمخاطر الناجمة عنه، خاصة في ظل عدم وجود تعقيم كافٍ أو استخدام مواد غير صحية، مع تبيان متى يكون الوشم صحياً ومطلوباً في حالة معالجة تشوهات جسدية.
حسين، في أحد أيام الصيف الماضي 2017، ذهب لأداء صلاة الجمعة وكان يرتدي قميصاً بأكمام قصيرة تُظهر جزءاً من الوشم على ذراعه. عندما لمحه خطيب الجمعة، قرر تغيير موضوع خطبته، ليتحدث عن الوشم وأنه حرام شرعاً ومؤامرة غربية لإسقاط إيران، "أيُّ مؤامرة يتحدث عنها؟! فأنا أحمل وشماً لأبيات قصيدة فارسية"، هكذا علَّق حسين ضاحكاً.
العديد من الشباب، في الواقع، يطلبون رسم وشوم مع العناصر الإيرانية، مثل صور الفيلسوف الإيراني ومؤسس الديانة الزرادشتية زرادشت، والجنود الـ10 آلاف الخالدين، ورموز الديانة الزرادشتية (تطلق عليها المراجع الإسلامية المجوسية)، وغيرها.
ويبدو أن هذا الاتجاه في الوشوم مرتبط بما رصدته تقارير إعلامية غربية عن تبني العديد من الإيرانيين المسلمين الشيعة رموز الثقافة الزرادشتية علناً، في إطار رفضهم الثيوقراطية الشيعية، خاصة أن الزرادشتية مرتبطة بتاريخ إيران القومي، حتى إن السلطة تستدعي بعض رموزها أحياناً؛ مسايرةً منها للمزاج العام.
ويمكن تلمُّس حجم حساسية السلطات من موضوع الوشم، لدرجة أن لجنة الأخلاقيات باتحاد كرة القدم الإيراني استدعت لاعبين؛ لوضعهم وشوماً على أجسادهم، باعتبارها سلوكيات مرفوضة ومدانة.
الخطورة ترفع التكلفة
لا تقتصر مشكلات رسامي الوشم الإيرانيين على المطاردات الأمنية؛ إذ يعانون أيضاً عدم توافر معدات الرسم والأحبار الخاصة بالوشم.
وهناك طريقان للحصول على هذه الأدوات؛ أولهما أن يتم شراؤها من على الإنترنت (أونلاين) من الصين، لكن حينها سيحصلون على أدوات ليست جيدة.
وإما أن يأتي بها أحد أصدقائهم من الخارج، وهذا ما يزيد تكلفة الوشم في إيران مقارنة بالدول الأوروبية مثلاً.
فتكلفة الوشم صغير الحجم قد تصل في إيران إلى ما يقارب 30 دولاراً أميركياً، بينما تصل التكلفة إلى 300 دولار للوشم الأكبر.
هذا الارتفاع في الأسعار، يفسره يغما قائلاً إن رسامى التاتو بإيران يعملون تحت ضغط المخاطرة وقلة الإمكانات، فيعوِّضون ذلك في تكلفة الوشم.
يكمل يغما رسمة الوجه على ذراع زبونه، ويبدو ضميره مرتاحاً رغم مطاردة السلطة، فهو في النهاية فنان، يرسم على أجساد الناس ما يرسمه على الورق، ولا يجد في الأمر حراماً أو مكروهاً، ومصرٌّ على أن "يكمل رسم الوشم إلى النهاية".